باسم الشعب

TT

كل المظالم وقعت على الشعب باسم الشعب. وباسم الحرية ألغيت كل حرية تحت شعار كل الحرية للشعب ولا حرية لاعداء الشعب. وباسم الامن انشئت اجهزة الرعب. وباسم الثورة على الفساد قطع كل لسان ينتقد الفساد. ان هذا يروي غرامنا السقيم بالكلمات وانها لا تزيد عن توابيت جوفاء تشحن أو تفرغ بالمعنى حسبما نهوى. وانه تحت الشعارات تغتال الحقائق (فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة) كما قال النيهوم. وان الجمهور كما يقول الفيلسوف (كريكجورد) مارد هائل بقدمين من صلصال كالفخار. ويؤكد التاريخ هذه الحقيقة فباسم الشعب اليهودي حكم (السنهدرين) على عيسى بن مريم بالصلب فرفعه الله إليه. وباسم الشعب الأثيني نفى (أرسطو) اعظم دماغ في عصره الى آسيا الوسطى. وباسم الشعب في بغداد حكم على الحلاج بضربه بألف سوط ثم قطع لسانه واطرافه قطعة قطعة. وباسم القرآن حبكت اعظم خديعة في تاريخ السياسة فرفع على رؤوس الرماح في حق يراد به باطل لينشئ معاوية ملكا عضودا. وباسم الشعب الفرنسي قطع على المقصلة رأس أفضل الناس (لافوازييه) أبو الكيمياء الحديثة (وكوندرسييه) الفيلسوف والرياضي المشهور ليقول لهم مجلس قيادة الثورة: «الثورة لا حاجة لها بالعلماء». وباسم المجمع اليهودي لعن فيلسوف التنوير (سبينوزا) بأن لا يقترب منه احد مسافة اربعة اذرع. وباسم الشعب ارسل ستالين الى العالم الأخروي ستة ملايين فلاح بالمسغبة و35 الفا من ضباط الجيش الاحمر وقضى على رفاق الثورة فردا فردا انتهاء بتروتسكي الذي لحقه الى المكسيك باستئجار شقي ضربه ببلطة على رأسه فانفلق، بحيث حقق للبلد استقرارا رائعا اشبه بعالم القبور. وفي العالم العربي وباسم الشعب تم ابتلاع الجيران وولادة ديناصورات الاجهزة الامنية ورسوخ الاستبداد ونزيف الأدمغة مما جعل فيلسوفا كبيرا مثل (عبد الرحمن البدوي) يسجل في سيرته الذاتية تحت عنوان (اليأس التام) ملاحظاته على الاوضاع (نذكرها بشيء من الاختصار والتصرف): (يئست من كل شيء: حاكم طاغية وشعب مسلوب العقل والارادة وطبقة متعلمة تتنافس في تملق الحكام. نعم قد يزول حاكم بعد وقت ربما يكون قصيرا، لكن لن يتغير شيء كثير لأن داء الاستبداد قد تمكن من نظام الحكم فصار من العسير اقتلاعه. فحتى لو جاء حاكم جديد مستنير عادل فسرعان ما تلتف حوله حاشية من الانتهازيين كأعشاب العليق يضعون بينه وبين الحق والعدل حواجز بعد الحواجز ويملأونه غرورا حتى يصدق ما تقوله ألسنتهم الكذب. ومهما أوتي من صلابة الخلق فإنه عما قليل سيجرفه تيار الكذب بحيث يكون هو نفسه اول المصدقين. وتبقى الصحافة ووسائل الإعلام كفيلة بإفساد ما تبقى وقلب المعاني رأسا على عقب فإذا خطب خطبة تافهة قالوا (خطاب تاريخي) واذا هدر بأوامر لا معنى لها صاحوا بصوت كهزيم الرعد (توجهات سامية) وإذا تعطلت كل المرافق من مواصلات وتلفونات وكهرباء وماء وصرف صاحت الأبواق (رغم توجيهات) وكأن كل كلمة يقولها هي كن فلا بد للشيء ان يكون أليس الحاكم بمثابة الإله الخالق؟) لينتهي الى قرار اتخذه الآلاف بعد ان تحول الوطن الى معتقل كبير فقال إني مهاجر الى ربي انه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه. وهكذا ففي الوقت الذي تتدفق على اسرائيل العقول، نعاني نحن من نزيف الأدمغة، وحين تفيض عليها الاموال، تطير رؤوس الاموال من عندنا، في تقاطع متعاكس ونتيجة واحدة وكأنه عمل مبرمج وأمر دبر بليل. وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون. يرى (أتيين دي لابواسييه) في كتابه (العبودية المختارة) الذي صدر قبل اربعة قرون ونصف القرن (1562م) ان الشعوب تسقط في قبضة الديكتاتورية بثلاث آليات إما بالاجتياح الخارجي وهو بدوره تالٍ للتفسخ الداخلي وإما بالولادة في ظلام العبودية فيستولي الاحساس على الناس ان طبيعة الحياة هكذا. واما بالتحول التدريجي من الحرية الى الرق كما يحصل في تدجين الحيوانات. فالخيل التي كانت تجمح براكبها تتحول مع الترويض الى حصان يتباهى بسرجه واللجام. حيث ان العادة تجري مجرى قانون الطبيعة. ويضاف الى ما ذكرنا عنصر مهم يلعب دوره في (تخدير الوعي) هو ايقاظ الغرائز والشهوات وبتعبير (الكواكبي): (وأما ملذاتهم فهي مقصورة على جعل بطونهم مقابر للحيوانات ان تيسرت وإلا فمزابل للنباتات ومنحصرة في استفراغهم الشهوة كأن اجسامهم خلقت دملا على أديم الارض وظيفتها توليد الصديد ودفعه) ويورد (لابواسييه) قصة مثيرة عن (كسرى) مع (الليديين) حينما ثارت العاصمة (سارد) ضده فتفتق ذهنه عن حيلة رائعة بفتح (دور الدعارة والخمر والألعاب الجماهيرية) فكانت له من هذه الحيلة (حامية اغنته الى الأبد) ويذكر المؤرخ الأميركي (ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) عن مظاهر سقوط روما ان الزعيم الوندالي (جيسريك) ذهل عندما افتتح قرطاجنة المسيحية (انه لا يكاد يخلو ركن فيها من بيت للدعارة). وحينما نقرأ تاريخ روما نعلم انها كانت مخدرة على مدار السنة في 175 عيدا منها عشرة للمجالدين و64 للوحوش وما بقي في الرقص والطرب في دور التمثيل، كما في المحطات الفضائية عندنا التي يشرف المطربون فيها على صناعة الثقافة حتى مطلع الفجر. وانتهز البرابرة فرصة انشغال الناس بهذه الألعاب فانقضوا على قرطاجنة وانطاكية وتريسر (حين كان الأهلون منهمكين في مشاهدتها في المدرجات أو حلبات اقتتال الوحوش). بهذه الادوات من (المسارح والمساخر والمشاهد والمصارعين والوحوش الغريبة والميداليات واللوحات) أو ما تفتق ذهن الطغاة الرومان عن (موائد العشرات) للرعاع الذين انحصر همهم في لذة الفم يتم (تخدير الشعوب) و(تخنيث الامم) حسب لابواسييه. وهكذا بمجموعة من (الادوات) يتم استعباد الامم بين (السوط والحلاوة) كما عبر عن ذلك ضابط نازي قام بتدريب الاستخبارات في بلد عربي على ما ذكرته مجلة (الشتيرن) الألمانية. فمن جهة يتم تركيع الامة بالخوف بجرعة رعب عالية، بالاضافة الى تصفية البلد وتفريغه من كل رجل ذي قيمة كما ذكرت ملكة سبأ (وجعلوا أعزة اهلها أذلة وكذلك يفعلون) وتسليط سفلة الناس والاوغاد على رقبة الامة كما وصف الكواكبي (ان يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا) ويتم ربط الامة كلها الى مقود العبودية بالنظام (السداسي) حيث يضم (معين خماسي) من الحاشية يحيط بالطاغية يوحون إليه زخرف القول غرورا، وقد يكونون تسعة كما في تعبير القرآن (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون). وكل واحد من الحاشية له ذيل من مائة من الاتباع. وكل واحد من الحلقة الجديدة له ذيل جديد من الاتباع يأتمرون بأمره وهكذا تتطاول السلسلة الى ما لا نهاية. تقوم هذه الشبكة الجهنمية بتصفية البلد وتفريغه تدريجيا من الروح بكل وسيلة بما فيها القتل (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) وهذه هي الادوات (الصلبة) الحادة لتقطيع الامة. أما المواد (المذيبة) فهي اشغال الغوغاء بظاهر من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. وتبقى اقلية من المفكرين المشاغبين من (مقلقي النوم العام) يجب معالجة امرها كما جاء في كتاب (الفاشوش في احكام قراقوش) حيث خلده الضمير الشعبي كنموذج للغرابة، ولكن لابواسييه يفاجئنا ان بلده مفرغ من العلماء وبهذه (الوصفة الثلاثية) يكتمل استقرار البلد مثل سكون المقابر. بين طبقة مثقفة مدجنة أو مهجرة، وغوغاء ترضع الشهوات، ونخبة حاكمة تفعل ما تشاء، في ظلام حالك إذا اخرج يده لم يكد يراها. واذا اطبق الظلام واحكمت الديكتاتورية قبضتها فهل الى خروج من سبيل؟ يروي المؤرخ البريطاني (توينبي) تحت قانون (الأقلية والأكثرية) ان الحضارات تبدأ بآلية التقليد من اكثرية تتهادى خلف اقلية مبدعة تقودها على انغام مزمار الراعي. وتنهار الحضارات حينما تتحول الاقلية الى عصابة مسيطرة تسوق الناس بسوط الإكراه. ويصف (لابواسييه) هذه القلة من الناس (آجلا أو عاجلا يظهر افراد ولدوا على استعداد أفضل يشعرون بوطأة الغل فيهزوه هزا ولا يروضون انفسهم على الخضوع ولم يكتفوا بما يفعل العامة بالنظر الى موطئ اقدامهم. أولئك هم الذين استقامت اذهانهم بطبيعتها فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيبا. أولئك لو ان الحرية انمحت من وجه الارض لتخيلوها وتذوقوها ولم يجدوا طعما للعبودية مهما تبرقعت). ان الديكتاتورية شجرة خبيثة ترسم مصيرها منذ زرع بذرتها الاولى انها ليست للبقاء لأنها ضد الحياة وهي تسقط في النهاية تحت ثقلها الخاص اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار. ان التاريخ يخبرنا ان هناك دورة ليس عنها محيص فكلما اشتد الظلام اقترب الفجر، وكلما ظهر الكمال على الطغيان كان ايذانا بانبلاج الصبح، وعندما يكتمل القمر كان معناه انه سيصبح مثل العرجون القديم.