الإيجابية الممكنة في مقررات القمة العربية

TT

القمة العربية انتهت.. ولكن انتفاضة الشعب الفلسطيني لم تنته.

الدول العربية لم «تعلن الحرب» على اسرائيل، كما طالبها البعض، ولكن رئيس الحكومة الاسرائيلية اعلن تجميد عملية السلام.

القمة العربية ادانت اسرائيل وايدت حق الشعب الفلسطيني وانتفاضاته ووعدت بدعمه وتقديم المساعدات له. ولكنها لم تذهب إلى حد طي صفحة استراتيجية السلام، ولا قطع العلاقات معها، او مقاطعة الدول التي تؤيدها. الحكومات العربية تجاوبت مع الشعب الفلسطيني الثائر والشعوب العربية الغاضبة والمتضامنة معه.. ولكنها لم تستجب لكل ما كانت هذه الشعوب تطالب به او ترفع شعاراته.

والنتيجة او الانطباع الاول، بعد نشر البيان الختامي للقمة العربية، ان البيان ـ المقررات اغضب او خيب آمال الجميع «ابتداء بالشبان الفلسطينيين الثائرين» و«الشارع العربي» وانتهاء بالبيت الابيض، مروراً بياسر عرفات وايهود باراك. ترى هل كان بامكان الحكام العرب ارضاء كل هذه الاطراف المتنازعة في آن معا، ام كان اغضابهم كلهم هو الطريق الوحيد المتوفر امامهم. وللتوفيق بين تمسكهم بمصالح دولهم العليا، وواجب التضامن مع الشعب الفلسطيني؟

ليس دفاعا مطلقا عن القمة او الحكومات العربية ـ وهو امر صعب امام ما يحدث في فلسطين، اليوم ـ بل محاولة في تحكيم صوت المنطق والواقعية، بالعاطفة الملتهبة والغضب الثائر، رغم التضامن الطبيعي والمبدئي والمتوجب مع الانتفاضة، نقول بانه لم يكن بامكان القمة العربية الخروج باكثر من هذه المقررات، وبأن هذه المقررات اكثر ايجابية مما يظن او يقول البعض، شرط تنفيذها، وبأن هذه المقررات لم تغلق باب السلام ولا باب مواصلة النضال بل والاستعداد للحرب و«استعادة ما اخذ بالقوة، بالقوة».

ولنبدأ بمسألة الحرب، فلقد طالب البعض الدول العربية بأن تعلن الحرب على اسرائيل. وانه كلام غير مسؤول ـ لا سيما عندما يصدر عن مسؤولين ـ لان الدول العربية لا تجمعها قيادة عسكرية واحدة وليست لها خطة حربية. ولا تحوز التفوق العسكري على اسرائيل، ولا على الولايات المتحدة الاميركية حليفة اسرائيل العسكرية. ولكن العجز عن استرجاع الحق العربي بالقوة يجب ان لا يحول دون التفكير جديا، من قبل كل الدول العربية، بوضع استراتيجية عسكرية موحدة، وخطة مشتركة، لبلوغ التوازن العسكري مع اسرائيل، لا تفترض، حكما صنع اسلحة الدمار الشامل، ولكنها تعمل على تعطيل قوة اسرائيل النووية واستبدال شراء الاسلحة الاقل تطورا من الاسلحة الاسرائيلية، ببناء صناعة حربية متطورة.

اما بالنسبة لدعم الشعب الفلسطيني، لا في انتفاضته فحسب، بل في نضاله الحالي والمستقبلي لتحقيق اهدافه الوطنية واستعادة حقوقه، فان مبلغ المليار دولار، ليس بالقليل، اذا كان يشكل دفعة اولى معجلة. اما الدعم الحقيقي، فانه يكلف اكثر من ذلك بكثير. ليس ماليا فقط، بل اقتصاديا واعلاميا وسياسيا. لقد حدث نوع من «التخلي» العربي عن القضية الفلسطينية بعد الموقف الذي اتخذه ياسر عرفات من حرب الخليج وخاصة بعد توقيع اتفاق اوسلو. ولكن موقف اسرائيل المتعنت والرافض للحقوق الفلسطينية المشروعة، والذي اثار الشعب الفلسطيني، والشارع العربي معه، اعاد القضية الفلسطينية إلى طليعة الهموم العربية، وقلب القضية القومية العربية. ولم يكن امام الحكومات العربية إلا ان تضرب صفحا عن المواقف السلبية، والنزاعات القائمة بينها ومع السلطة الفلسطينية، واعلان تأييدها لها وللشعب الفلسطيني، واعادة وضع القضية الفلسطينية على رأس جدول اعمالها ومصالحها، سواء في علاقاتها العربية ـ العربية، او في علاقاتها مع الغرب والعالم، ان دعم الشعب وقياداته السياسية الحالية، بشكل اوفر ودائم، لا يفترض، كما طالب البعض، فتح الحدود وترك المجاهدين العرب والمسلمين المتطوعين، والاسلحة، تتدفق على الضفة وغزة، (مع العلم بان هذا ايضا يشكل نوعا من اعلان الحرب على اسرائيل، وان هذه الاخيرة قادرة عسكريا على الحؤول دونه). بل يكون بوضع مخطط شامل سري ـ اذا امكن ـ لكل ما تتطلبه مصلحة صمود الشعب الفلسطيني وتصعيد مقاومته، واعتماد موازنة مالية له، ولجنة دائمة لتنفيذه. كما يتطلب رصد مبالغ مالية كبيرة لدعم الاعلام الفلسطيني في العالم، وجعل هذا الاعلام ينفذ إلى عقول وقلوب الشعوب الغربية والشعب الاميركي بنوع خاص، وايضا، إلى عقول وقلوب الاسرائيليين انفسهم. وانه لطموح اعلامي صعب التحقيق. ولكنه ليس مستحيلا. ان اسرائيل تراهن على انطفاء او فشل الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، كما حدث من قبل واكثر من مرة، منذ العشرينات من القرن العشرين وحتى نكبة 1948. وهي تراهن على عفويتها وافتقارها إلى مخطط علمي واقعي، وإلى قدرة الدول العربية على تقديم الدعم العميق والدائم لها. ولا يجاب على ذلك بالدعوة إلى توسيع نطاق المواجهة إلى العالم الاسلامي، وقدرة الحجر والبندقية والرشاش على التغلب على الدبابة والطائرة والصواريخ، فالانتفاضة، كي تتحول إلى ثورة ومقاومة وحرب شعبية ترغم اسرائيل على الانسحاب من الضفة، وازالة المستوطنات، تحتاج إلى تصميم وتخطيط «بارد» اكثر من الخطب الحماسية، وإلى اعداد علمي بعيد المدى، لا إلى التحريض على قلب الانظمة العربية. ان بعض الشعارات المرفوعة، اليوم، وفي مقدمتها شعار «الهوة بين الانظمة والشعوب» و«تغيير الانظمة العربية لتحرير فلسطين»، سبق طرحها بعد النكبة في الخمسينات، وبعد الهزيمة العسكرية، في السبعينات. وماذا كانت النتيجة؟ قيام حكومات انقلابية عسكرية عربية، عطلت الحريات والديمقراطية في قسم كبير من الدول العربية، ولم تفشل في استعادة الحق العربي في فلسطين، فحسب، بل ادخلت الامة العربية في حروب عربية ـ اسلامية وعربية ـ عربية، اضعفتها واستنفدت ثروتها وطاقاتها، ومكنت اسرائيل من ابتلاع فلسطين كلها، وهضم قسم كبير مما ابتلعته.

نعم، ان مقررات القمة العربية جاءت دون ما كانت الشعوب العربية تأمله.. ولكن الذين يطالبون بتقرير مصير الامة العربية في «الشارع» وعلى ضوء شعارات غايتها اسقاط الانظمة العربية الحاكمة قبل استعادة الحق الفلسطيني، واعلان حرب عربية ـ اسلامية، على الولايات المتحدة واسرائيل، ليسوا بواقعيين وليسوا على صواب في اختيار هذا الطريق الخطر والمستحيل، بدلا من اختيار طريق العقل والمنطق والواقعية، وهو طريق لا يؤدي، اذا توفرت له شروط النجاح، إلى الاستسلام او الخسارة.

نعم، لقد طويت صفحة اتفاق اوسلو، ولكن صفحة الحل السلمي للقضية الفلسطينية لم تطو، فرفض السلام بشروط اسرائيلية او اسرائيلية ـ اميركية، موقف صحيح، كذلك الانتفاضة والمقاومة والمقاطعة ووقف التطبيع وقطع العلاقات، ودعم الشعب الفلسطيني بالمال والاعلام والديبلوماسية، انما هي اوراق فلسطينية وعربية كاسبة في لعبة السلام. واهم من ذلك، انهاء النزاعات العربية والاسلامية، واعادة وحدة الجبهات الداخلية ووحدة الصف او الموقف العربي. ان في ايدي العرب والمسلمين اسلحة سياسية واقتصادية واعلامية كثيرة ومؤثرة على اسرائيل والولايات المتحدة، ولكن اهم من هذه الاسلحة هو وحدة الموقف والصف العربي. هو حسن استخدام هذه الأسلحة في الوقت المناسب، لا سوء استعمالها في الوقت غير المناسب. صحيح ان مشاهد الشبان الفلسطينيين الثائرين، وبحق، على الاغتصاب والغطرسة الاسرائيلية، والمتساقطين برصاص العدوان الاسرائيلي، يخرج الانسان العربي، بل اي انسان في العالم، عن صوابه، يثير في نفسه الغضب والثورة ويدفعه إلى الرغبة في القتال إلى جانب الشعب الفلسطيني، ولكن كسب معركة السلام مع اسرائيل، ما زالت، رغم مرور عشر سنوات على ابتدائها، طويلة، لقد حقق الشعب الفلسطيني في هذه الانتفاضة وفي السنوات العشر الاخيرة، تقدما كبيرا في طريق استعادة ارضه وحقوقه. ونجح في ادخال قضيته وعدالتها إلى قلوب وعقول القسم الاكبر من شعوب العالم وقادتها. وان اسرائيل تعرف ذلك جيدا، وان لم تعترف به. والمطلوب، اليوم، عدم خسارة كل ما تحقق، وعدم اتاحة الفرص لاسرائيل، كي تستفيد من اخطائنا، وتعيدنا إلى حالة التفكك والتنازع والسلبية القومية السابقة.