القفز فوق الحواجز العالية

TT

في العصور القديمة كان الحمام الزاجل الوسيلة الاسرع التي يستخدمها الناس للاطمئنان على اخبار بعضهم البعض، وكان الحمام الزاجل مرسول الحب بين العشاق للتواعد على اللقاء والتعبير عن لوعة الفراق، وايضا كان مرسول الحروب، حيث كان القادة يسخرونه للكشف عن تحركات جيوش الاعداء من خلال الجواسيس الذين كانوا يدسونهم بينها. اليوم اقتصر دور الحمام على جلب السرور للعجائز الذين يقضون جل وقتهم بالجلوس في الحدائق العامة المنتشرة في معظم دول العالم، والتسلي بمراقبة الحمام وهو يلتقط الحب من كفوف ايديهم، بجانب ان الحمام اصبح يشكل معلما من معالم السياحة في مدينة مثل لندن، حيث يحرص السياح على التقاط الصور التذكارية لهم والحمام يرفرف من حولهم في أحد ميادينها الشهيرة.

التقدم المذهل في الثورة المعلوماتية اذاب الحواجز الصلبة، وفتح الطرق المغلقة، واصبح ما يجري اليوم في امريكا يسمع صداه فورا في المناطق الاخرى من العالم، وما يحدث في الصين يشاهده الجميع على شاشات التلفاز وشبكات الانترنت، واصبح العالم بأسره مثل قبضة اليد الواحدة بامكان المرء ان يحرك اصبعا واحدة ليرى الكرة الارضية من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها. هذا الدور الفعال للانترنت دفع امريكا بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر الى تقييد الحركة المعلوماتية بحجة المحافظة على الامن القومي للبلاد، من خلال مراقبة المواقع الخاصة بالبحوث العلمية واغلاق بعض المواقع العسكرية الهامة، حتى لا يحاول أحد استغلالها استغلالا سيئا، وهو ما دعا الكثير من البلاد الى سن قوانين صارمة في حق من يحاول العبث بالانترنت لتحقيق مآرب شخصية او التشهير بشخصيات عامة، كما حدث في السنوات الاخيرة من توقيع عقوبات رادعة في حق بعض الشباب الذين قاموا بنشر فيروس أدى الى تدمير ذاكرة الكثير من اجهزة الكمبيوتر في العالم، وبالتالي ادى الى خسارة شركات كبرى.

كذلك لأول مرة في السعودية يتم معاقبة فتيات بحرمانهن من الانتظام في الدراسة بعد ان قمن من خلال منتديات الحوار المنتشرة على الانترنت بتوجيه عبارات لاذعة في حق بعض الموظفات التابعات للهيئة التعليمية في مدرستهن، وعلى الرغم من تراجع الادارة عن قرارها والسماح للطالبات بالعودة الى صفوف الدراسة، الا ان رد الفعل الفوري الذي اتخذته الادارة يؤكد مدى اهمية هذا الجهاز الخطير في التأثير على الرأي العام.

أتذكر ان هناك فيلما ابيض واسود كان اسمه على ما اعتقد «طاقية الإخفى» قصته تدور حول شخص عثر على طاقية قديمة اكتشف بعد ان وضعها على رأسه انه اختفى عن الانظار، ويقوم هذا الشخص بمواقف مضحكة، لكنها عميقة المضمون، فيدخل الى البيت متخفيا ويسمع شتائم حماته في حقه، ويلج الى الادارات الحكومية، والملاهي الليلية، يرى الناس على سجيتها، ويكتشف الوجه الآخر للمجتمع، الانسان ودواخله دون مواراة، وفي النهاية يقتنع بأن كشف الحقيقة لا يؤدي الى نتائج ايجابية دوما، وان العيش في ظلال الواقع افضل من رؤية الاشياء بوضوح في ضوء الشمس الشديد، الذي يحرق فروة رأس كل من يقف تحته طويلا.

قصة الفيلم جعلتني اقارن بين مضمونها وما يحدث اليوم في عصرنا الحالي!! قد تكون للانترنت آثار سلبية مثل المواقع المشبوهة التي تشوه فكر الشباب وتثير غرائزه وتلهيه عن قضاياه الاساسية، بجانب استغلال بعض الشباب الذين لا يملكون ضميرا حيا في التغرير بالفتيات من خلال مواقع منتديات الحوار، وحوادث الانترنت التي تدور حول هذه المشكلة منتشرة بكثرة، وقد قام بنشر نموذج منها الزميل عبد الله باجبير مؤخرا عبر عموده اليومي.

لكن على الجانب الآخر للانترنت والفضائيات جوانب ايجابية كثيرة، ويكفي ان يدخل المرء غرفته، ويجلس على كرسيه ويعبث بأزرار التلفاز او يدير مفتاح الكمبيوتر لتنفتح امام ناظريه نافذة العالم على مصراعيها ويعلم بما يجري في آخر بقعة في العالم. لقد ساهم الانترنت والفضائيات في توسيع مدارك الشباب والاطلاع على ثقافات الشعوب الاخرى وفي معرفة الحقائق المتوارية، وكان للانترنت دور فعال في نقل الاحداث الدامية التي تجري على ارض فلسطين من خلال قيام العديد من المنظمات الخاصة والتي اذكر منها تحديدا «كير» اكبر المنظمات الاسلامية الامريكية في واشنطن، التي ساهمت من خلال سلسلة المقالات التي تم نشرها في الترويج بنجاح للقضية الفلسطينية، بجانب قيام الشباب العربي الواعي بارسال صور المجازر البشرية والانتهاكات التي يقوم بها الاسرائيليون في حق الفلسطينيين الى العديد من المنظمات الاوروبية مما ادى الى تعاطف الكثير من بلدان العالم بل وفي داخل امريكا نفسها مع القضية الفلسطينية، كذلك فضح الانترنت المواقف الرسمية للعديد من البلدان العربية وتخاذلها في الوقوف بصرامة امام ما يحدث للفلسطينيين من خلال الاقلام الشريفة التي لم تتوقف عن الكتابة عما يجري خلف الاسوار العالية، والاهتمام بنشرها عبر الانترنت حتى تدرك الأمة العربية والإسلامية ما يجري في الخفاء داخل اوطانها!! هذه الجوانب الايجابية التي قطفت الشعوب العربية ثمراتها من الانترنت وساهمت في تنوير الرأي العام العربي، جعلتني أقارن بينها وبين ما جاء في مقالة الصحافي توماس فريدمان «الغباء الكوني للقرية الكونية»، التي ذكر فيها ان الانترنت والقنوات الفضائية جعلت العالم مترابطاً تقنيا، لكنها لم تفلح في ربطه اجتماعيا او سياسيا او ثقافيا، وان الانفتاح المعلوماتي لم يعلم الناس ان يجعلهم اكثر قدرة على تفهم غيرهم، بجانب انها جعلتهم اكثر غباء بسبب تصديق بعض الاحداث التي لا تمس الواقع من قريب او بعيد، بل ادت كذلك الى تأجيج نزعة الغضب في دواخلهم ضد كل من يعارض توجهاتهم. النتائج الملموسة على ارض الواقع العربي تدحض بشدة الملاحظات التي اوردها فريدمان في مقاله، كون الاعلام العربي في معظمه تابعا لحكوماته، وساهم الانترنت والفضائيات الخاصة في نشر الآراء الحرة المتباينة، مما يعني نشوء جيل جديد يتربى على حرية الحقائق نتيجة وجود منابر متعددة للثقافة والمعرفة، بجانب ان الغضب الذي تحدث عنه فريدمان جاء نتيجة الاحساس بالظلم والهوان وانعدام العدل.

ان مشكلة معظم الحكومات العربية انها لا تريد ان تتقبل هذا الواقع الملزم، وتحاول جاهدة بكافة الطرق وضع الاسلاك الشائكة امام الثورة المعلوماتية المتمثلة في الانترنت على وجه التحديد، وفي مصادرة الكتب التي تزيح الخمار عن وجه الحقيقة المرير، حتى تظل شعوبها في اغماءة ثقافية دائمة وتسهل قيادتها، وهذا من اصعب الامور في عصر يصر على رمي ردائه بعيدا، والرقص رقصة السامبا المشهورة، متعمدا الكشف عن تفاصيل جسده بجرأة وشجاعة متناهيتين، ليغري عشاقه على الالتصاق به اكثر، والدوران حوله طوال الوقت، مما يؤكد ان نظرية الاستسلام وتقبل الأمر الواقع ستسود في نهاية الأمر!!.