الهزيمة الكبرى والمخرج الأخير

TT

يقول المثل العربي الدارج «ان الذي يأكل العصي ليس كالذي يعدها» وهو مثل له وجهان متناقضان، فمن وجهة اولى هو يعني ان الذي يعد ضربات العصي لا يتألم ولا يصرخ كالذي يتعرض لضرباتها، وهذا صحيح مائة بالمائة. لكن المثل نفسه يعني من الجهة الثانية ان ثمة اختلافا واضحا بين الذي يضرب بالعصي والذي يعدها. والاختلاف هو في ان المتفرج على الضرب بالعصي يستطيع ان يستوعب الاسباب التي اوجبت الضرب، تماما كالذي يشاهد مباراة لكرة القدم مثلا، فإن مكانه وموقع رؤياه واحاطته بالملعب واللاعبين تجعل منه قادرا على تحديد خطأ اللاعب، وهذه الاحاطة تجعل المتفرجين في مستوى حكام اللعبة، بل احيانا افضل منهم من حيث انهم يرون ما قد يعجز الحكم عن رؤيته والا لماذا يخرج المتفرجون عن اطوارهم احيانا، فيتقاتلون فيما بينهم او ينتقمون من اللاعب الذي خذلهم ولم يسمع نصائحهم.

وقد كانت هذه حالنا مع السلطة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق اوسلو في حديقة البيت الابيض في 1993/9/13 ولطالما كتبنا ولفتنا نظر السلطة الى ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب واهمية ان يكون المسؤولون فيها على مستوى النقلة الاستراتيجية الهائلة التي قفزت الثورة الفلسطينية فيها من مجموعة ثوار يأكلون البارود ويشربون العذاب والنضال الى وزراء في حكومة شرعية مدنية تحكمها الاعراف الدولية والتقاليد السياسية والدبلوماسية.

ومنذ البداية كان معروفا ان رئيس السلطة الوطنية، المناضل ياسر عرفات، يملك من الخبرة النضالية والشفافية والحس الثوري الراقي، ما يجعله بعيدا، ليس فقط عن الارتكابات، بل ايضا عن المرتكبين، ذلك ان قادة الشعوب العظيمة من الابطال الشرفاء الذين ينذرون انفسهم للنصر والحرية او الموت، لا يخطر في حسبانهم ان الانسان انسان مطبوع على الخطأ والخطيئة، وخصوصا على التجبر وحب الذات والبحبوحة.

وقد كان مقلقا كثيرا ان بعض رفاق ياسر عرفات، وهم مناضلون ايضا لا احد ينكر عليهم ذلك، لم يستوعبوا في اجسادهم وعقولهم الثورة والشفافية والنضال والتقشف والحياة الحرة والموت الكريم، بل كانوا يستوعبون واحدا من الاثنتين كالنضال وليس التقشف والثورة وليس الشفافية والحياة بالطول والعرض وليس الموت الكريم.

في عمان وبيروت وصبرا وشاتيلا والعرقوب وشارع الحمرا وراس بيروت كان هؤلاء يثيرون الدهشة في بعض مظاهرهم وتصرفاتهم، كانوا يأكلون ولا يشبعون واحيانا يطلبون الاكل بقوة السلاح ولا يدفعون، يدخنون السيجار ويلبسون الساعات الذهبية وكان ابو عمار في البدلة نفسها والكوفية نفسها والترفع نفسه عن الاكل وصغائر الامور لسنوات وسنوات ما يدفع الى القول: يا سبحان الله.. هل يعقل ان هذا الرجل قائد لهؤلاء المرتكبين! واما ابو عمار فكان يرى ويسمع ويعرف كل شاردة وواردة في جهازه والاجهزة الكثيرة التي حوله ولكنه كان يعتقد ان الثورة هي الاهم وان العمر والتجربة سيعلمان هؤلاء المرتكبين ان الساعة الذهبية باطلة وزائلة والكرامة هي الباقية فاذا لم يتعلموا نعطهم فرصة اخرى فالثورة يجب الا تأكل ابناءها.

واما نحن فكنا نكتب ونذهب الى الرئيس نلفت نظره الى ما نرى ونسمع وكان يسمعنا ويؤكد على ان الثورة ستعلم هؤلاء الدروس الكافية. الى ان تم توقيع اتفاق اوسلو وتشكيل جهاز السلطة الوطنية حيث بدأت الدول المانحة في تقديم مساعداتها المالية والفنية والتقنية كي تجعل السلطة دولة قادرة على الادارة، ولم تمر شهور قليلة حتى خرج المرتكبون الى النور مرة ثانية، وعرفت الدول المانحة وهي تراقب اموالها ان بعض الذين يأخذون المال لا يريدون بناء دولة ووطن بل يريدون بناء ممتلكات خاصة، فاعتذرت عن الاستمرار في دفع المال، ثم بدأت تضع شروطا قاسية.

لكن دعونا نقول ان هذا وغيره كان من الماضي فما الذي سمعناه ورأيناه خلال الشهور الستة الماضية، بل خلال الشهرين الاخيرين منذ بدأ شارون هجومه العسكري الكاسح على الضفة الغربية في 2002/3/29 حيث اصبح للسلطة عشرون ناطقا باسمها، وتحولت مهمة وزير الاعلام، ياسر عبد ربه، الى نفي ما يقوله آخرون، حتى بات مضطرا لتكذيب التكذيب، واخيرا اصبح يشعر بانه يغرد خارج السرب.

وخرج هؤلاء ليعلنوا ان الثورة ربحث معركة كنيسة المهد وربحت معركة المتهمين بقتل وزير السياحة الاسرائيلي، وربحت المقاطعة في نابلس وفي جنين، وفي كل شبر من ارض السلطة، حتى ظننا ان تل ابيب ستسقط بعد يومين او ثلاثة. بل انه لم يعد بوسع الاشقاء العرب نقل الحقيقة كما هي للناس، بل اخذوا يرددون ما يتحدث عنه رموز السلطة من انتصارات. لا شك ان هناك خللا ما في مكان ما.. في جهاز ما.. اذ ليس من المعقول ان تبلغ بنا الامور هذا المبلغ وان يبلغ بنا الجشع والطمع والجوع هذا المبلغ.. فلا نعرف اين تصرف اموال الدولة.. ولا كيف نقدم الحقيقة للناس.

فهل من المعقول ان نواجه اليوم ما واجهناه قبل عشرين او ثلاثين عاما دون ان نتعلم؟! لقد تبرع العرب خلال الشهرين الماضيين بعشرات ملايين الدولارات، غير الذهب والحلي والأكل والشرب والدواء.. فأين ذهبت هذه التبرعات وفي اي يد شفافة وضعت!.

وقعت ازمة كنيسة المهد وكانت مناسبة نادرة لتجييش اوروبا المسيحية والمسيحيين في العالم، كي يقفوا معنا ضد شارون وجيشه الذي يحاصر الكنيسة وبيت لحم كلها، فلماذا سكت الاوروبيون وتفرجوا علينا، والقناصون الاسرائيليون يقتنصون الصامدين واحدا تلو الآخر داخل الكنيسة ويدنسون المكان الذي ولد فيه المسيح عليه السلام.

فهل يعرف المسؤولون في السلطة ما كان يمكن ان يحدث لو ان كنيسة المهد كانت في فرنسا؟ هناك خطر جسيم يتكرر كل يوم وكل ساعة على الساحة الفلسطينية، ويجب ان نشكر الله ألف مرة ونقبل الارض ألف مرة لأن وراء السلطة الفلسطينية هذا الشعب العظيم الذي لم يخطئ ابو عمار عندما سماه شعب الجبارين.

الآن، لم يعد امام السلطة الفلسطينية وقائدها الرئيس ياسر عرفات الكثير من الخيارات فالادارة الفلسطينية اثبتت عدم فعالية عدد كبير من اجهزتها واسرائيل استطاعت ان تجعل من اتفاق اوسلو السم الزعاف الذي اذا شربناه مصيبة واذا رفضناه مصيبة. وادارة الرئيس جورج بوش تريد له ان يجدد ولايته ولا يعاند اسرائيل واللوبي اليهودي، كما فعل ابوه فيخسر الثانية ويواجه فضائح لا تحصى فيما تبقى من ولايته الحالية. واوروبا تتفرج صامتة شامتة والعرب حاروا في امور الفلسطينيين.

ولكي تتمكن السلطة والفلسطينيون عموما، من الخروج من عنق الزجاجة ثمة طريق واحد وخطوات مؤدية اليه، تتلخص في ان يدعو الرئيس عرفات جميع قادة الفصائل الفلسطينية والمستقلين الى طاولة واحدة ويبلغهم بمنتهى الصراحة ان الوضع الفلسطيني لا يسمح بالحرب والوضع الدولي لا يسمح بالعناد والوضع العربي لم يعد صدره يتسع لهم ولافعالهم. وان يعيد بناء الادارة الفلسطينية بحيث تتسع لجميع الفصائل ويعطي لكل صاحب مسؤولية كامل المسؤولية في التصرف وان يتم الاعلان عن ميثاق شرف جديد يقوم على اساس ان خيار السلام هو الخيار الاستراتيجي الوحيد الذي سيخوض الفلسطينيون معركته المقبلة. الامر الذي يتطلب العمل السلمي ولا يضع الحل العسكري في الحسبان الا بعد فشل جميع المحاولات السلمية وان يبحث عرفات عن رئيس تنفيذي لحكومة جديدة.