التحرك الفردي والجماعي للدول تجاه الأزمات

TT

لا شك في ان التضامن الدولي، بصوره المختلفة، يمثل المحرك الاساسي للدول، وذلك في كل المناسبات بما فيها اوقات السلم والحرب، حيث يعتبر تضامن الدول في الميدان الاقتصادي عصب الحياة الدولية، وتدور سياسات الدول في كافة الميادين الصناعية والزراعية والخدمية في فلكه. لذلك قامت اجهزة متعددة لاحكام هذا التضامن والتي ظهرت في اعقاب الحرب العالمية الثانية حيث تدور سياستها على اساس العمل على رفع المستوى المعيشي وزيادة فرص العمل ورسم سياسات اقتصادية تخدم المصالح القومية والاقليمية والدولية تدعيما للسلام وجهوده.

ورغم تسابق الدول بمختلف احجامها على زيادة قوتها العسكرية واجتهادها في المجالات العلمية المتطورة وغيرها من المجالات الاخرى، والتي اكتسحت الفضاء وكلفت البشرية الاموال الطائلة، الا ان الصراعات الخفية والواضحة كلها مبنية على اسس اقتصادية لا عسكرية، رغم انها تتغافل عن قضايا التخلف الاقتصادي الذي حورب ووقفت في وجهه بعض المنظمات الدولية بالرغم من أنها قضايا تشمل ثلثي سكان العالم تقريبا.

كل هذا يجعلنا جميعا نتساءل عن ماهية المحركات الفعلية للدول المتضامنة تجاه انواع الازمات المختلفة، التي يعيش العالم في خضمها في كل القارات وعلى كافة مستويات الدول.

لقد انذر التطور العلمي في الدول المتقدمة بأن الحرب القادمة ستكون ذات آثار مدمرة وبعيدة المدى على البشرية جمعاء. ولفت العلماء النظر الى ان التعاون الدولي يجب ان يقوم على اساس الاعتراف بالمبادئ والقيم التي ظهرت اثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، ومنها حق تقرير المصير، وحقوق الانسان، وغير ذلك من الحقوق، ولهذا قامت الأمم المتحدة ومكاتبها ومنظماتها لتؤكد الضرورة الموجبة لاعادة تنظيم التعاون الدولي على اساس العمل وعلى انقاذ الاجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الانسانية مرتين احزانا يعجز عنها الوصف، وان نؤكد من جديد ايماننا بالحقوق الاساسية للانسان وبكرامة الفرد وقدره وربما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.

فالأمم المتحدة قامت لتكون مرجعا لتنسيق اعمال الأمم وتوجيهها نحو ادراك الغايات المشتركة، وتهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريتين لقيام علاقات سليمة وودية، لتكون مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الشعوب، وهذا ما جاء في الفقرة الرابعة من المادة الاولى من المثياق.

وتحقيقا للتعاون والتضامن المنشود بين الدول، نص الميثاق على انه «ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام تنظيمات او وكالات اقليمية تعالج الامور المتعلقة بحفظ السلام والأمن الدويين ما يكون العمل الاقليمي صالحا فيها ومناسبا ما دامت هذه التنظيمات او الوكالات الاقليمية نشاطاتها متلائمة مع مقاصد الأمم ومبادئها».

ولعل الفترة من سنة 1945 والى وقتنا الحالي، هي فترة من الصعب تعقبها بسهولة لجهود اجهزة التضامن الدولي وفروعها على المستويات الدولية والاقليمية والمحلية، خاصة ان هناك العديد من الموسوعات والتقارير التي لا حصر لها والتي كتبتها بكل لغات العالم وذات الانشطة المختلفة للأمم المتحدة واجهزتها في الاقتصاد والاجتماع والتعليم والثقافة والصحة، وكل شؤون الحياة بغرض التخفيف من حدة الصراعات والازمات الدولية وتوجيه العناية الى حقوق الانسان والمساواة في الحرية ومحاربة العنصرية... الخ.

وقد دلت المؤشرات، خلال هذه الفترة، على ان الصراعات والازمات التي حدثت ليست كلها تحركات عسكرية او دليل قدرة على تحديد القوى البشرية وتكديس المعدات الحربية المتطورة، او استراتيجية الامداد والتموين والسيطرة على مصادر الطاقة وتخزينها وتدبير ما يلزم من قواعد عسكرية جوية وبحرية وبرية وفضائية تنطلق منها الصواريخ القريبة والبعيدة المدى وتهدد وتساند القوى الكبرى على الجانبين.

ولكن جدت محاور اخرى تدور حولها استراتيجية الصراعات والازمات، فهناك محور الاقتصاد بأمواله وتجارته وذهبه، والاوضاع السياسية والعقائدية بظروفها واحزانها وتكتلاتها واشكالها، وما تعكسه على المواقف الدولية من قلق او استقرار يؤثران سلبا او ايجابا على مشاعر الأمن في مجاله المحلي والاقليمي والدولي. فمن طبيعة الامور ان تكون العلاقات الدولية علاقات متداخلة بين السياسة والدبلوماسية والاستراتيجية العسكرية تؤثر وتتأثر ببعضها البعض.

لقد بات الانسان، بعد ان دلل على نبوغه في استخدامات الذرة والالكترونيات ومشتقاتها، يمتلك قوة القضاء على نفسه، وارتبطت المصالح القومية اوثق ارتباط بالمصالح الانسانية على اساس ان اكبر مصلحة قومية تبعا لهذه الروح التي يتميز بها العصر، هي السلام والوقوف في اوجه أية محاولة تهدده وتدعو الى قيام حرب قد تستخدم فيها الذرة بسهولة فتصبح حربا لا تبقي ولا تذر. ونتيجة لهذا تغيرت المحاور التي تدور عليها التحركات الدولية الفردية والجماعية واصبحت هناك انماط جديدة في التفكير على كل المستويات:

أولا: ان اطلاق صناعة القنبلة الذرية والتجارب النووية قد اثرا تأثيرا عميقا وواسعا في اسلوب السياسة الخارجية للدول، وكان التغيير في هذا الاسلوب نتيجة حتمية لظهور افكار جديدة في استراتيجيات الدفاع والخطط العسكرية التي تطورت وظهرت فيها مخترعات حديثة اكثر ضمانا واشد خطورة وفتكا، تجاوز تهديدها دائرة تدمير الحضارة البشرية الى التكوين البيولوجي للبشر نفسه، ولم يعد السلام قابلا للتجزئة، فقد اصبح مصير البشرية كله مهددا بضغطة زر واحدة.

ثانيا: ادت الثورة التكنولوجية المعاصرة الى ان ينكمش العالم وان يقل حجم الكرة الارضية مما احدث الكثير من المشاكل المعقدة في كل مكان، فلم يعد الانسان في أي موقع الا وكان له فيه اصدقاء ومعارف واقارب وله صلات على كل نوع وكل مستوى، اما العلاقات بين الدول فقد اصبحت مرهونة بتوفر المعلومات الدقيقة التي تخزن في اجهزة على أعلى مستوى من التكنولوجية لتقوم خلال جزء من الثانية بتحليلها وإعداد تقارير مستفيضة عنها وتحديد القرارات المبنية على اسس علمية لا تخطئ في غالب الاحيان. واصبح العلماء بذلك هم اسياد الموقف في تحديد المبادئ العلمية الفعالة التي تتخذ اساسا لوضع السياسات ورسم الاستراتيجيات، ويمكن ان نتخيل ما في ذلك من خطورة اذا ما جاءت قراراتهم نتيجة لبث بيانات واحصاءات غير صادقة او غير دقيقة.

ثالثا: اذا ما كان هناك جانبان متنازعان فإن الضربة القاضية لفض هذا النزاع تكون مرهونة بالسرعة الخاطفة لمن يسبق بالضرب في مفاجأة خاطفة وفي اقل من طرفة عين، ومن الطبيعي ان استعداد طرف من الاطراف ليكون على هذا المستوى لا بد ان يثير في الجانب الآخر الرغبة في اتخاذ نفس الاجراءات او احسن منها .

وعندما تتوفر هذه الامكانيات كلها لدى الطرفين ويمتلك كل منهما القوة اللازمة، يصبح كل منهما متخوفا من الآخر ولا يجرؤ على البدء باستخدام قوته ضده.. ومن هنا يمكن القول بأن التطورات الحديثة في انواع الاسلحة والمعدات والصواريخ العابرة للقارات والرؤوس النووية وقنابل ذرية اخرى هيدروجينية وثالثة ميكروبية او بيولوجية، يمكن ان يعدها البعض سببا من الاسباب التي تقلل من احتمالات اللجوء الى الحرب كوسيلة لحل المنازعات او فض الازمات الا اذا كانت هذه الامكانيات كلها تحت تصرف حاكم مطلق مجنون لا يعي تصرفاته او لا يقدر نتائج هذه التصرفات.

ويستند البعض الى مجموعة اخرى من الحقائق التي تشير الى ان الحرب الذرية الشاملة امر غير مستحيل، فكل افتراض باستحالة وقوع حرب ذرية شاملة يزيد من نسبة احتمال وقوع هذه الحرب، فالبحوث الذرية والثورة التكنولوجية لا يمكن ان يتوقفا او يتجمدا كذلك لا يمكن ان يحدث التعادل في القوة بين الجانبين، فلا يمكن ان يتوقف نشاط صناعة الاسلحة، ولا يمكن ان يتوقف اصحاب هذه المصانع عن التوقف عن انتاجها وبيعها، فهي صناعة قائمة ونشطة رغم ما يعقد ويوقع من معاهدات وتعهدات للحد منها، والا فكيف يستطيع كل جانٍ ان يتصرف من موقع القوة الا اذا كان لديه مخزون ضخم من كل انواع هذه الاسلحة؟ وقديما قالوا ان الاسلحة المكدسة في المخازن تصرخ وتنادي قائلة: الحرب... الحرب.. اريد الحرب.. اريد الحرب، وهو قول له خطورته ومعانيه.

ولذلك فان اصحاب مصانع السلاح في كل مكان اصبحوا يمثلون قوة لا يستهان بها، وقد اصبح لهم عملاء في كل مكان يعملون على نشر الفتن والحروب وعلى تقوية شوكة العصابات الخارجة عن القانون، ومعاونة ومساعدة الثائرين في الدول النامية ومدهم بالسلاح لتظل مصانع الاسلحة التي يملكونها تعمل ليل نهار ولتتكدس لديهم الاموال بالبلايين، ويهددهم توقف هذه المصانع بضياع الثروات وقيام العمال بالاضرابات نتيجة التعطل والبطالة. فهي اذا دائرة مفرغة لا تنتهي، لها اطراف، وستظل الدائرة قائمة ما دام هناك حكام ورؤساء لهم اطماع وطموحات لا حدود لها.

ومن هنا جاء التحرك النشط لعقد اجتماعات القمة بين رؤساء الدول وتعددت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الامن وحلف الاطلنطي وحلف وارسو وحلف جنوب شرق آسيا وجامعة الدول العربية والمجلس الاوربي ومجالس التعاون الخليجية، وعقدت اتفاقيات التعاون والوفاق والمصالح المشتركة الثنائية والجماعية، وعقدت جلسات المحاكم الدولية والمؤتمرات ونشطت الرحلات المكوكية والخطوط الساخنة. وتدور كل هذه التحركات والاتصالات في فلك علاقات دولية تحكمها مجموعة من القواعد التعاقدية والعرفية التي توجه تصرفات اعضاء المجتمع الدولي وتعتبرها الدول المتمدنة ذات السيادة محددة لسيادتها ولحقوقها المفروض فيها انها ملزمة لها قانونا فيها يقوم بينها من علاقات، وهي بذلك يمكن اعتبارها مجموعة من المبادئ المنظمة والمنشئة للمجتمع الدولي.

ورغم اعتراف الجميع بعدالة هذه المبادئ والقواعد، الا انها محل تنازع بصفة مستمرة بين الفقهاء والشرائع في الكثير من الموضوعات وفي العديد من مجالات التطبيق. وينكر الكثيرون على هذه القواعد صفة القانونية لأنها لا تخرج عن مجرد كونها قواعد اخلاقية اساسها ضمان رضا الدول وليست لها قوة الالزام او حزم القانون.

ولذلك من الطبيعي ان تنظم العلاقات التي تنشأ بين اعضاء العائلة الدولية ان صح القول، على اسس تكفل السلامة للدول ولشعوبها وتنمية ما بينها من روابط تعود بالفائدة على الجميع، فكلما زادت الروابط قوة ومتانة وكثر التعاون وضحت العلاقات ووضحت بالتالي اهمية الارتباطات الدولية الاخلاقية المعترف بها من الجميع، وبما اصطلح على تسميته بالقانون العام. فالمجتمع العالمي اصبح الآن في اشد الحاجة الى رابطة جوار بين الدول من أفراد المجتمع، وفي اشد الحاجة الى ضمير اجتماعي يحكم تصرفات اعضائه والى احساسٍ بالتقدير والاحترام المتبادل والرغبة في التعاون والتضامن في ما فيه الخير للجميع.

* أستاذ إدارة الأعمال المشارك ـ جامعة الملك عبد العزيز