رؤية مشتركة للتنمية

TT

ظل تأثير العولمة على البيئة والتنمية موضع جدل ساخن لسنوات عدة في الشوارع والصالونات من دافوس الى بورتو اليغر. وأملي ان توليفة جديدة ستظهر نتيجة للحوار بين هذه الرؤى المختلفة عندما تنعقد القمة العالمية للتنمية المدعومة في جوهانسبيرغ بجنوب افريقيا في سبتمبر (ايلول) المقبل.

ولم يلفت انظار العالم مؤتمر رئيسي من مؤتمرات الامم المتحدة التي عقدت في سنوات التسعينات كما فعل مؤتمر قمة الارض الذي انعقد بعد فترة قصيرة من انتهاء الحرب الباردة في ريو في يونيو (حزيران) عام 1992. غير انه بعد ما يقرب من عشر سنوات ما زال الكثير من التعهدات التي قدمت هناك لموازنة حماية البيئة مع التنمية غير منجز.

كان هناك تقدم بالطبع. فقد اصبح الجمهور اكثر معرفة عموما بقضايا البيئة. وتحققت مكاسب في اطار متوسط العمر المتوقع ومجالات صحية معينة. وقبل كل شيء كان هناك انخفاض في معدل نمو السكان في العالم.

وبينما انخفض معدل الفقر الشامل على النطاق العالمي، ازداد هذا المعدل في بعض البلدان، واتسعت الهوة بين الاغنياء والفقراء بشكل كبير. وارتفع استخدام الطاقة على الرغم من هبوط النمو العالمي. ويبقى التسخين العالمي تهديداً خطيراً. اما إزالة الاحراج والتصحر وعدد الانواع المعرضة للخطر ففي تصاعد مستمر.

وبايجاز فان القضايا الاساسية التي جرى بحثها في ريو ما تزال قائمة.

ولهذا السبب يتعين على جوهانسبيرغ ان تعكس الاحساس بالضرورات الملحة. ويجب ان تتقدم بخطوات عملية، واجراءات جريئة، وبأهداف ومواعيد وتعهدات واضحة.

ولا بد من القيام بهذه الخطوات لا من جانب الحكومات فحسب، وانما، ايضا، من جانب كل الاطراف المعنية ـ أي مسؤولي الشركات، والاتحادات النقابية، والمزارعين، والسلطات المحلية، والهيئات الاجتماعية، والمنظمات غير الحكومية، والنشطاء.

وسيتطلب هذا الامر رؤية مشتركة للكيفية التي يتعين ان تشق بها التنمية طريقها. ان «رجل دافوس» (وهو الاسم الذي صاغه صموئيل هنتنغتون، استاذ جامعة هارفارد، لنخب السياسة والمال والاعمال العالمية في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي ينعقد كل عام في دافوس بسويسرا ـ المحرر)، يرى في العالم المعلوم، ذي الحدود المفتوحة، واقتصاد السوق الحرة الطريق الى الرخاء. غير انه حتى «رجل دافوس» لديه شكوك حول كيفية معالجة الفقر والمرض في العالم، وكذلك الاغتراب، والتوتر الاجتماعي، وتهديدات النظام التي تنبثق عن هذه الامور. ونتيجة لذلك يسعى زعماء الشركات الى حوار مع النقاد للتوصل الى اجابات جديدة.

وعلى النقيض من ذلك تشعر حركات الاحتجاج، والاكاديميون المعارضون، الذين يجتمعون، سنوياً، في بورتو اليغر بالبرازيل، بالارتياب العميق بشأن مزايا اقتصاد السوق المعولم. ويعطون اولوية للمحلي على العالمي، ومن هنا فهم غير مقتنعين بان عملية تحرير السوق وفتح الحدود هما الطريق الى رخاء الجميع. وبالنسبة لهم يصبح العالم معولما ليس لان الفرد العادي اختار ذلك وانما لان السلطة الفعالة هي بأيدي قلة. ولكن في بورتو أليغر، ايضاً، هناك تحول من الاحتجاج باتجاه الحوار.

ان الرؤية التي نسعى الى تجسيدها في صيغة «ناشط جوهانسبيرغ» تختلف عن رؤية كل من دافوس وبورتو أليغر.

فناشط جوهانسبيرغ يراد له ان يكون اقتصادياً ليحترم الحاجات، ويقارن التكاليف بالفوائد، ويدرك آفاق نظام السوق المدار على نحو ملائم، لانقاذنا من تجاوزات، وانحرافات الهيمنة العامة. ويراد له (او لها) ان يكون مهندساً او تكنولوجياً ليدرك ان النمط السليم للتنمية لا يتطلب مجرد تكييف وتطويع السوق، وانما جهوداً منظومة لتعزيز التكنولوجيا البديلة التي هي اقل عدوانية في استخدامها للانظمة الطبيعية. و«ناشط جوهانسبيرغ» هو باحث في البيئة يدرك ان تحليل موارد ومردودات الكلفة / الفائدة بحاجة الى تقييم يتميز باستيعاب شامل للسبل التي تتأثر عبرها انظمة البيئة المحلية، والوطنية، والعالمية. وهو (أو هي) يدرك ان التنمية تتطلب تفويضاً، ويعني ذلك الديمقراطية واللامركزية.

وفي كل هذا يسترشد «ناشط جوهانسبيرغ» بمبدأ ان الاختبار الحقيقي للتنمية هو ما تفعله لاحترام الذات ولكرامة ورفاه الشخص الاكثر فقراً في المجتمع. وهذه هي رؤية التنمية المدعومة التي ظهرت في كل مناقشاتنا التحضيرية لقمة سبتمبر (ايلول) المقبل.

وهي رؤية يتجلى اساسها في عدد كبير من المشاريع التي تربط الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في كل موحد. وهي رؤية تستند الى امكانية التكنولوجيا الجديدة في تعزيز التنمية اللامركزية التي تعمل بالتوافق، وليس ضد البيئة المحلية. انها تعتمد على مفهوم للتضامن والمسؤولية، ليس فقط في ما يتعلق ببعضنا البعض، وانما ما يتعلق بالاجيال القادمة.

ان املنا الكبير يتمثل في قدرتنا على توحيد القضايا المتماثلة التي تربط بين مسؤول شركة متعددة القومية وعائلة قروية لا من اجل الاتفاق الجماعي في الرأي فحسب، وانما من اجل العمل ايضاً.

* الامين العام المساعد للامم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وبتلك الصفة سيترأس القمة العالمية للامم المتحدة للتنمية المدعومة التي من المقرر انعقادها في الفترة من 2 الى 11 سبتمبر المقبل في جوهانسبيرغ بجنوب افريقيا.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»