في ذكرى جريمة القرن 20 أي سلام يرتـجى؟

TT

ما هي جريمة القرن العشرين؟

أهي جريمة الاستعمار الذي اجتاح معظم بلدان العالم؟

هذه جريمة، ولكنها ـ على الرغم من بشاعتها ومرارتها ـ قد زالت بزوال الاستعمار اذ بقيت البلدن لأصحابها الحقيقيين ـ وسوء ادارة هذه البلدان على ايدي الوطنيين، قضية تختلف عن قضية الاستعمار، او عن طريقة الاحتلال والاستبداد بالشعوب اهي جريمة الجنون النازي والفاشي الذي تسبب في اندلاع اكبر وافظع حرب عرفها التاريخ البشري؟

هذه جريمة ولكن مسعريها عوقبوا عقاباً اليماً من جنس عملهم، اذ ضربوا بحرب مضادة طحنتهم طحناً ومزقتهم كل ممزق، فالنازي انتحر، والفاشي اعدم، ثم عادت الامور الى سياقها الطبيعي واعيد ترسيم الحدود التي اجتازها النازي ومحاها: طمعاً في التوسع والضم.

اهي جريمة السطو الصهيوني على فلسطين بالاحتلال، وتشريد اهلها، والاستيلاء على بيوتهم ومزارعهم ومصانعهم ودكاكينهم، وتسليمها للطفح الصهيوني القادم من الخارج؟

نعم .. هذه هي جريمة القرن العشرين.

هي جريمة، لأنها ظلم ـ بالمعنى القانوني والسياسي والاخلاقي للتعبير ـ.

والظلم والعدل نقيضان لا يجتمعان.

ولما كان العدل من اساسيات (حقوق الانسان) فان الظلم (اغتيال) لهذه الحقوق، واستباحة لمضمونها المعنوي، وحقيقتها المادية.

ومن المفارقات الصارخة الدالة على (النفاق السياسي) الدولي الممنهج المبرمج:انه في ذات القرن الذي صدر فيه (الاعلان العالمي لحقوق الانسان)، ومعظم المواثيق والمعاهدات التي تدندن حول هذا الموضوع.. في هذا القرن ذاته، جرى (وأد) سافر ومتعمد لحقوق الانسان وهو وأد تمثل في اقامة الكيان الصهيوني عام 1948 على انقاض فلسطين: أرضاً وشعباً نعم .. هذه هي جريمة القرن العشرين، لأنها جريمة لا تزال (مفتوحة).. ولأن المجرم الفاعل لا يزال متلبساً بها، ولا يبرح يزيد حجمها ورقعتها بـ(المستوطنات)، وبالاصرار على البقاء في ما احتله عام 1967 وبالاستمرار في العدوان على الشعب الفلسطيني، وتنظيم المذابح الرسمية له في جنين وغيرها.

نعم .. هذه جريمة القرن العشرين، لأن ضحاياها الشعب الفلسطيني لا يزالون مشردين بالملايين: هنا، وهناك، وهنالك.

كيف كانت هذه الجريمة؟

على الرغم من ان اختيارنا الفكري والمنهجي هو: التفسير الموضوعي للتاريخ والاحداث والمواقف فاننا لا نستطيع ان نغمض العينين عن (يد التآمر) الدولي في هذه الجريمة، ولا سيما ثمة قرائن تشير الى هذا التآمر، ونكتفي الآن بتقديم قرينتين:

1ـ عام 1917 اصدر بلفور بيانه الظلوم الذي يحمل وعداً لليهود باقامة وطن قومي لهم في فلسطين. ومما جاء في هذا البيان او الاعلان: «ان حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف الى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية».

لماذا كان هذا الاعلان المؤسس على الظلم، المعجون بالجور؟ .. وفي مقابل ماذا اتخذ؟

تقول حقائق التاريخ السياسي: في عام 1916 (اي العام الذي سبق وعد بلفور) ابرم اتفاق بين وزارة الحرب البريطانية وبين المنظمة الصهيونية العالمية .. وخلاصة هذا الاتفاق هي ان تبذل المنظمة الصهونية جهدها ونفوذها من اجل جر الولايات المتحدة الى الحرب العالمية الاولى، فقد كانت بريطانيا تريد وتخطط لإنزال الهزيمة بألمانيا، ولكن ثبت لديها ان هذا الهدف لن يتحقق الا اذا دخلت امريكا الحرب .. هذا هو الغرض البريطاني من الاتفاق ..اما الغرض الصهيوني فهو: ان تعطي بريطانيا وعداً لليهود باقامة وطن لهم في فلسطين .. ولقد اعقب الاتفاق نشاط سياسي مكثف على الجانبين .. واذا كان الناس قد علموا صورة النشاط البريطاني (وعد بلفور) فانه ينبغي ان يُعلم ما قام به الصهيونيون بناء على ذلك الاتفاق.

والحقيقة ان ما هو متوافر في محفوظات بريطانيا عن اسرار الحرب العالمية الاولى يؤكد على ان يهود وزارة الحرب البريطانية هم الذين ابرقوا الى ابناء ملتهم في وزارة الدفاع الامريكية بشأن اغراق السفينة الامريكية (ساكس) في القناة الانجليزية.

وكانت بريطانيا العظمى ـ آنذاك ـ قد وضعت تحت تصرف اليهود في لندن جميع وسائلها البرقية العالمية، ورموزها السرية لإعلام يهود العالم بتعهد بريطانيا اعطاء فلسطين لليهود، مقابل جهودهم في جر الولايات المتحدة الى الحرب كحليفة لبريطانيا وفي هذا السياق يمكن الاستماع الى (جواهر لال نهرو) وهو يقول في كتابه لمحات من التاريخ: «وعندما غزت الجيوش البريطانية فلسطين في الحرب العالمية الاولى، ودخلت القدس، اعلنت الحكومة البريطانية وعد بلفور الذي قطعته في نوفمبر .1917 وقد نص هذا الوعد على انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقصدت الحكومة البريطانية بهذا الوعد كسب صداقة اليهود العالمية».

2 ـ القرينة الثانية هي تواطؤ المتناقضين ـ آيدلوجياً واستراتيجياً وسياسياً ـ على مساندة الصهيونية العالمية.

ففي مؤتمر (يالطا) عام 1945 وهو مؤتمر جمع رؤساء الاتحاد السوفيتي يومئذٍ والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى آنذاك.

في هذا المؤتمر: ائتلف النقيضان، وتناغم الضدان!! أ ـ في مؤتمر يالطا قال تشرشل: «اريد ان أبدأ كلامي بأن اعلن في بداية الامر انني صهيوني، أؤمن بأن من حق اليهود ان يكون لهم وطن قومي، وان تكون لهم دولة يهودية».

ولم تمض إلا سنوات ثلاث على هذا الكلام حتى قام لليهود كيان في فلسطين، مرت منذ يومين الذكرى الرابعة والخمسون لنشوئه.

ومن الاعتبار الاستراتيجي بما جرى: ألا يظن احد: ان التآمر او التدبير الكيدي كان تاريخياً فحسب. فخيوط هذا التدبير الاجرامي الخبيث لا تزال ممتدة حتى اليوم .. وموجز هذا التآمر المستمر هو التخيير بين (إمّاتين) مهلكتين: إما القبول بـ(دولة فلسطينة من ورق).. وإما ألا تكون هناك دولة فلسطينية ـ قط ـ غرب نهر الاردن .. ومن الخطأ في الحساب: ان ينظر الى ما صدر عن تجمع الليكود من رفض للدولة الفلسطينية على انه مجرد استهلاك حزبي، ولا الى ما قاله الامين العام للحكومة الصهيونية على انه محض مناورة، فقد قال (ان الشروط التي يعرضها العالم العربي للسلام مع اسرائيل لم تتغير والموافقة عليها تعني القضاء على دولة اسرائيل).

ينبغي التحرر من وهم:ان غلاة الصهيونية يقولون مثل هذا الكلام في هذا المجال للاستهلاك المجرد، مثلاً: ارييل شارون يطبق اليوم ـ بالعدوان والاجتياح والمذابح ـ ما نادى به في برنامجه الانتخابي.

ثم ان آراءه في الدعوة الى إبعاد رؤوس الانتفاضة وتغييبها... وتوسيع الانتشار والاستيطان .. وتجفيف منابع دعم الشعب الفلسطيني.. هذه الآراء التي يعلنها اليوم هي: عماد مشروعه المعروض الذي طرحه عام .1989 ان العرب وقد اعلنوا عزيمتهم الصادقة على السلام، لن يقلل من يقينهم بالسلام الحق، ان يعتبروا استراتيجياً بما جرى من قبل، وما يجري اليوم، وان تتواكب هذه العبرة مع: الصلابة السياسية في المواقف والرؤية.. ومع الموازاة او المحاذاة في الاخذ والعطاء ومع بذل جهد استثنائي في العون على وحدة الصف الفلسطيني، فمع التفتت الفلسطيني لن يكون هناك عمل سياسي مثمر في هذا الميدان.

لقد قدم العرب اكثر مما يستطيعون، ولذلك فليجمدوا عند هذه النقطة، فليس دون الجمود، او الثبات، عند هذا الحد، الا السقوط في القاع. وهو مصير لا يرتضيه حر عاقل لنفسه، بكل مقياس: المقياس السياسي، او التاريخي، او النفعي، او العقلي، او الغريزي.