تقنيات حزب «الإتقان»

TT

أثناء ندوة طلابية أقامتها إحدى الجامعات اللبنانية، أعطي مفتتح الكلام لخريجٍ من قسم اللغة العربية وآدابها، ظناً، على الأرجح، بأن هذا الاختصاص، لا بد يمنح أصحابه حنكة الضاد واستقامة اللسان. وقد حلا للطالب المختار ـ وهنا كانت المعضلة ـ أن يتحدّث، مع بعض الإطالة، عن الإتقان وضرورته الملحة، لتغيير واقع الحال. لكن، ما كان يثير ضحكاً باطنياً مريراً، هو أن الشاب كان، في كل مرة، يريد فيها التلفظ بكلمة «إتقان» يقع في المحظور، ويقول «إتّقان» (بتشديد التاء) وكأنما ليؤكد لسامعيه بأنه يدعو إلى أمر محال. وهذه الشَدّة الفائضة، التي فاض بها الكيل، تستدعي تذكّر جهد أولئك المستشرقين، الذين نتسلى بمهاجمتهم، وننسى إكبار صبرهم، في تقليب صفحات معاجم العربية، كي يحركوا أبجدية الكلمات فتحاً وضماً، ويضبطوا أسماء شعرائنا وأفذاذنا بأفضل مما نفعل حين نستسلم للسليقة، التي غالباً ما تغدر بنا. ودقة هؤلاء المستشرقين -الملعونين بيننا- تعكس ذهنية هي أشبه بتلك التي شكلت بدائع الزخارف العربية على أسقف وجدران معمارنا القديم الأموي أو الفاطمي، وما يزال يثير فينا الدهش والفخار، منها بالعقلية التي تشيد عمارات الباطون القبيحة الشوهاء، في مدننا الفوضوية الحديثة. ليس في ما نقول دفاع عن المستشرقين وإنما غيرة على قيمة «الإتقان» في المجتمع العربي، وهي تتعرض لأبشع أنواع الاغتيال، برصاص نكاد لا نعرف مصدره، أو الهدف من إطلاقه بهذه الكثافة المعتوهة.

«كله ماشي» يقولون لك، والمضحك أن الأمور تمشي بالتأكيد، إنما إلى الوراء. العربي يعمل ولا يحصد، و«الحركة بلا بركة»، لأن في قبوله بمبدأ «الجود من الموجود» و«خلّي همّ بكره لبكره» يناقض منطق الحياة، القائم أصلاً على تجاوز الذات ومعاندتها وتحفيزها على الذهاب إلى ما هو أبعد وأفضل. والعمل «من قفا اليد» كما هو شائع وغير مستهجن أو مستقبح، يجعل من الهامش الصغير الذي بقي للإنسان العربي ليتحرك فيه بمثابة مساحة عدمية، لا خير منها ولا رجاء.

هاك كل دواوين الشعر التي تنهمر على المكتبات كشلاّل مجنون، كاسح لا ينضب ولا يتعب، قلّبها ولا تبك أو تشدّ ما تبقى لك من شعر في رأسك، وإنما ترحّم على الفرزدق الذي كان رغم شاعريته وطواعية الكلام بين يديه يقول: «والله لقول بيت من الشعر أشقّ عليّ من قلع الضرس». وتذكّر بمعية الفرزدق كثيرين من بينهم الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى الذي كان يقضي عاماً كاملاً في تشذيب القصيدة وتهذيبها، وهو ما أطلق عليه النقاد في ما بعد «الحولي المحكك»، حتى بات زهير علماً على رأس «مدرسة الصنع» التي هي نقيض «مدرسة الطبع» ويرتاح على مقاعدها، اليوم، أبناء الأمة، بمختلف اختصاصاتهم، ويوزعون على خيباتهم المتبادلة الشهادات التقديرية ويقيمون لبعضهم حفلات التكريم والتضليل، ويعلو التصفيق والتهليل من كل صوب ونغرق في سديم الابتهاج.

ليس هناك، في نهاية المطاف «إتقان» بشري، إنما هي محاولات للإتقان، بالإمكان تسميتها فن ترويض المستحيل، وتدجين الشَموس، واحتمال وجع لذيذ في سبيل مطلب عزيز. لكنها محاولات لا تناسب مزاج المستسلمين لخدر «وادي عبقر» أو المتكئين على مساند الإلهام والوحي المجّانيين اللذين لا يورثان غير العقم والإفلاس. أنظر في أمر الرسامين والموسيقيين ومعهم النجارين والحدادين وصانعي الأحذية وكلهم مهنيون يملكون زمام تطوير أنفسهم بملء إرادتهم، وتساءل لماذا لم يتمكن العرب من اختراق ميدان حرفي ما، ان في الخياطة أو قص الشعر أو حتى تطوير آلاتنا الموسيقية؟ لماذا ما يزال الرقص الشرقي على حاله منذ فتحنا أعيننا على الدنيا؟ أما استطاعت راقصة واحدة، على كثرتهن، أن ترتقي بهذا الفن إلى مستوى أرفع؟

قد يبدو الأمر أقرب إلى نكتة، لكنه في العمق نقمة. عاين العدد الهائل من المطربين الذين ما عادوا يطربون ذوقاً أتعبه الزعيق والنعيق، ويصرون على ان حناجرهم هبة لا تحتاج إلى تطويع أو تطوير، وقارن طاووسيتهم بمغنّ عالمي من وزن بلاسيدو دومنغو، محجوزة مواعيده لثلاث سنوات قادمة، واسمعه يقول وهو يتحدث عن استهابته لصعوبة الأداء: «يجب أن نغني دائماً وكأنها المرة الأولى والأخيرة». وهذا الرجل الذي يبقى مرتجفاً أبداً أمام حكم جمهوره، بعد أربعين سنة من الغناء، جاب خلالها مسارح الدنيا،لا يقلل من قدره بل يرفع من شأنه، ان يقول بأن صوته ليس في طبيعته الأولى جميلاً ولا خلاباً وإنما هو، كما نسمعه اليوم، مشغول ومصنوع، بعد ان مارس عليه نحتاً يومياً يعتبره بمثابة «كفاح» متواصل.

وشبيه بهذا الكلام ما قاله توفيق الحكيم مختصراً مسيرته الأدبية في بضع كلمات: «أملي أكبر من جهدي، وجهدي أكبر من موهبتي، وموهبتي سجينة طبعي.. ولكنني أقاوم».

واستعمال مفردتي «الكفاح» و«المقاومة» من قبل دومنغو وأديبنا توفيق الحكيم للكلام على مغامرتيهما الكبيرتين اللتين اشتعلتا على مدى عشرات السنين لا بد أن يكون له دلالته وأهميته عند أمة، تنسب لنفسها هاتين الصفتين الغاليتين على قلبها، لكنها لا تربطهما، في أي حال، بالإتقان كما فعل المبدعان الناجحان اللذان نتحدث عنهما. وهو ما يطرح تساؤلاً صاعقاً: إذ ليس هناك على، ما يبدو، إتقان ممكن من دون «نضال» و«عراك» و«صراع» على ما يعبر عنه الباحثون عن تحقيق بعض أحلامهم. وعلينا هنا، كي نفهم بشكل أفضل، أن نعكس السؤال لنعرف هل بالإمكان ادعاء مقاومة أو كفاح حقيقيين وجديين، في مجتمعات لا تعيش ولا تريد أن تعيش آلام الإتقان ومخاضه؟ وللتوضيح فقط فإن العلاقة بين الإتقان وإصابة الهدف عضوية في اللغة العربية. و«تِقْنٌ» هو اسم رجل كان جيد الرمي يضرب به المثل ولم يكن يسقط له سهم. ثم قيل، بعد ذلك، لكل حاذق بالأشياء تقن. وإذا صدّقت ما يقوله المنتمون إلى حزب الإتقان، وراجعت إلى جانب نصائحهم وسيرهم ما يهديك إليه «لسان العرب» لا بد أن تدرك بأنك لن تبلغ المراد إلا حين تصبح تقناَ وابن تقْنٍ، وإلاّ فكل كلام على مقاومة واقع الحال هو ضرب من المحال.

[email protected]