شَغَفَه الإيجاز

TT

اعتبر ارنست همنغواي في بدايات القرن الماضي، مدرسة جديدة في الكتابة الصحافية. فقد اختصر جملته وشذّب زوائدها والغى تكرارها وقلّم موشاها وضبط فصاحتها وخفف اجراسها واحكم مدلولها وضبط حجمها.

وتغيرت الكتابة الصحافية بعد همنغواي. ولم يقتصر ذلك على الرسالة الحربية الآتية من مواقع القتال والحروب التي شغفت الكاتب الاميركي، بل شملت طريقة كتابة المقال والخبر، وانتقل ذلك الى الرواية وصنوف الأدب. وملت الناس الاطالة والاسهاب والسجع الذي اختفى ايضا من الادب العربي في تلك المرحلة تقريبا. واشتهر عن ونستون تشرشل الذي كان ايضا احد اهم مؤرخي بريطانيا، انه كتب الى صديق يقول: «اعذرني على الاطالة في هذه الرسالة، لانه ليس لدي الوقت للاختصار».

ونشأت في مدارس الصحافة الاميركية قاعدة الزامية جديدة تقول: «اذا كنت تستطيع التعبير بكلمة واحدة، فحاذر استخدام كلمة اخرى». واعتقد ان اول استاذ في فن الكتابة والبيان كان صديقكم الجاحظ. فهو اول من دعا الى الاختصار والاقتضاب كشرط من شروط البلاغة، وقال في دعواه: قيل للفارسي ما البلاغة، قال معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليوناني ما البلاغة، قال تصحيح الاقسام واختيار الكلام. وقيل للرومي ما البلاغة، قال حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الاطالة. وقال جماع البلاغة التماس حسن الموقع والمعرفة بساعات القول. وقال الجاحظ قالوا: البيان بصر والعي عمى، كما ان العلم بصر والجهل عمى. والبيان من نتاج العلم والعي من نتاج الجهل. وقال يونس بن حبيب: ليس لعي مروءة ولا لمنقوص البيان بهاء، ولو حك بيافوخه عنان السماء. وروى الجاحظ ان السماك جعل يوما يتكلم وجارية له تسمع كلامه، فلما انتهى قال كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما احسنه لولا انك تكثر ترداده. فقال اردده حتى يفهمه من لم يفهمه، قالت: الى ان يفهمه من لم يفهمه، يكون قد مله من فهمه.

الاطالة التى لا طائل تحتها هي حرفة الثقلاء والغلظاء والمقلدين الذين لا موهبة لهم ولا خير فيهم. ولذلك يستعيرون كل شيء ويقتنصون كل سانحة وينسبون الى انفسهم ما سرقوه ممن يقلدون. وقال الشاعر ان الصراصير لما قام قائمها ظنت انها صارت شواهينا. وقال آخر البغال التي ترفس كل من تراه تظن انها خيول اصيلة.

قال الجاحظ: قيل للعتابي ما البلاغة؟ قال: كل من افهمك حاجته من غير اعادة ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ. فقلت له قد عرفت الاعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال اما تراه اذا تحدث قال عند مقاطع كلامه، افهم عني، او لست تفهم او لست تعقل؟ فهذا كله عي وفساد.

وقال آخر العيي الفاسد هو الذي لا يكف عن تصور العيب في الاخرين فيما حياته وسيرته مشكاك من العيوب والذنوب والعورات وسوء الخلق وسوء الادب. فهو لا يكف يخاطب اشراف القوم قائلا: عيب يافلان، متسلحا بالقاعدة الكريمة داروا سفهاءكم. لكن الناس ادرى بذوي العاهات واحقاد الصدور التي تخنق سعتها البطون.

وقال اسحق بن حسان بن فوهة: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع احد قط. سئل ما البلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة. فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الاشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا. والايجاز هو البلاغة.

وقال آخر فمن حرم من كل ذلك فهو عيي ومتطفل وشتام ولا خلق له الا خلق ساعته ولا خير فيه لأحد.

وقال الرجل الذي كان واقفا هناك انه هو القاطن العالي الجبل.