غزة.. بين مقاومة شعب فلسطين.. ومسؤولية شعب إسرائيل

TT

اكتب هذه الكلمات بعد ان رجحت كفة التراجع المؤقت عن دخول القوات المسلحة الاسرائيلية الى قطاع غزة.

وتراجع شارون مؤقتا عن توجيه عدوان جديد بعد ان اتخذت الوزارة الاسرائيلية قرارا بذلك وبعد أن حشد قواته على حدود القطاع، واطلقت بعض اجهزة الاعلام الاسرائيلية انباء عن الهدف المرتقب لهذه الحشود، هذا التراجع يدل على ان ظروفا قد استجدت على الموقف وأدت الى تغيير القرار من هجوم الى انتظار، من دون ان تكون هناك تأكيدات بأنه قد صرف النظر نهائيا عن ضرب قطاع غزة، لأن الحرب التي اعلنها شارون مازالت قائمة تتجسد في الهجمات المتكررة على بعض مدن الضفة مثل طولكرم ونابلس وبيت جالا وغيرها ثم الانسحاب منها ومحاصرتها، فالحرب اذن لم تصل الى مرحلة الهدنة أو السلام، وشارون مازال مصراً عليها تعبيرا عن آرائه المعروفة في رفض الاتفاقيات التي وقعت بين الحكومة الاسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها اتفاقيات اوسلو التي انتهكت تماما بدخول القوات الاسرائيلية الى الارض الفلسطينية التي وضعت تحت اشراف السلطة، وتعبيرا عن آراء بعض الاحزاب الدينية المتطرفة التي اجتمعت في حكومة تحالف الليكود الذي اخذت لجنته المركزية هذا الشهر قرارا بعدم الموافقة على اقامة دولة فلسطينية، والتي يجنح بعض المسؤولين فيها الى اطلاق تصريحات عدوانية مستفزة مثل قول بنيامين بن اليعازر بأنه ليست هناك حدود جغرافية في عملية مقاومة الارهاب ودعوة ليبرمان الى ضرب السد العالي، واقتراح أحد زعماء حزب (المفدال) الى فتح سيناء لتكون مهجرا للفلسطينيين مما دفع وزير الخارجية احمد ماهر الى التصريح بأن مثل هذا الحديث هو نوع من الهراء الذي يشبه كلام الحشاشين! وهكذا، فإن التراجع عن ضرب غزة لا يعتبر نهاية لحرب شارون العدوانية، ولكنه يعتبر تحولا جاء محصلة لعدة عوامل منها ظهور تغير في موقف الادارة الامريكية بعد زيارة الامير عبد الله الى واشنطن واجراء حوار صريح مع الرئيس الامريكي جورج بوش، واتصال الرئيس المصري حسني مبارك برئيس الوزراء ارئيل شارون لتبصيره بما يمكن ان تتعرض له المنطقة والشعب الاسرائيلي من اخطار اذا اقتحمت القوات الاسرائيلية مدينة غزة، والبيان الذي صدر عن قمة شرم الشيخ الثلاثية واعتبرته الدوائر الاسرائيلية مشجعا والاتصالات الاوروبية مع الحكومة الاسرائيلية لمنع تصعيد العدوان ومحاولة بلورة فكرة عقد مؤتمر لحل قضية الشرق الاوسط، والتغير الملحوظ في الموقف الداخلي الاسرائيلي بعد تصاعد المعارضة ضد اسلوب شارون الذي لم يحقق الامن والاستقرار، والذي يعرض حياة الجنود والمدنيين الاسرائيليين الى اخطار غير محسوبة، وقد تجلى ذلك في المظاهرة التي اجتاحت تل ابيب يوم السبت 11 مايو (ايار) والتي شارك فيها حوالي 100 الف شخص مطالبة باحلال السلام وانسحاب القوات الاسرائيلية من الارض الفلسطينية، وهي تعتبر الاكبر من نوعها منذ بدء الانتفاضة الفلسطينية في 28 سبتمبر (ايلول) 2000، وكذلك اعتراض بعض الجنود وضباط الاحتياط على استدعائهم لضرب الفلسطينيين.

هذه المعارضة المتصاعدة كانت ولاشك سببا من الأسباب التي ادت الى تأجيل العدوان على مدينة غزة، وقد اوضح بنيامين بن اليعازر وزير الدفاع الاسرائيلي ان عملية الغزو لم يتم الغاؤها وأن كل الخيارات مفتوحة امامها، كما أوضح ان النقاش العلني الذي دار حول تفاصيل العملية التي كانت مرتقبة، كان سببا من أسباب تأجيلها وتسريح بعض جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم لانها فقدت عنصر المفاجأة، ولكن الامر الذي لم يعلنه وزير الدفاع الاسرائيلي والذي كان محل بحث وتقدير، هو احتمالات الخسائر الاسرائيلية في الهجوم على غزة من جهة، وتصاعد موجة رفض الرأي العام العالمي للهجوم من جهة اخرى.

ومعروف ان غزة تتمتع بكثافة سكانية ذات ارقام قياسية حيث يعيش في مساحتها المحدودة 140 ميلا مربعا حوالي مليون ومائة الف، وفيها من مخيمات اللاجئين ثلاثة أضعاف ما هو موجود في الضفة الغربية، ولذا فان سكان المدينة لم يلجأوا الى الصبر والانتظار، ولكنهم بادروا بالاستعداد لمواجهة احتمالات العدوان الاسرائيلي، فاقاموا المتاريس وزرعوا الالغام ووضعوا سدادات الطرق، ورفعوا درجة استعدادهم الى الذروة لمواجهة جميع الاخطار المحتملة، ولجأ بعض قيادات الحركات التنظيمية الى الاختفاء حتى لا يقعوا في ايدي القوات الاسرائيلية اذا اقتحمت المدينة.

وكانت صحيفة (ها آرتس) الاسرائيلية قد نشرت أن الصور التي نقلت من غزة ضاعفت المخاوف من زيادة الخسائر، وان ضباطا من الجيش الاسرائيلي قد اعربوا صراحة عن خشيتهم من الخسائر الضخمة التي قد يتعرضون لها، خاصة ان الموقف في غزة يختلف كثيرا عن الموقف في الضفة الغربية.

وهكذا تعددت الاسباب التي أدت الى تأجيل العدوان على غزة، والتي ابرزت أهمية روح المقاومة الشعبية عند جماهير القطاع، وتصاعد الرفض والمعارضة داخل المجتمع الاسرائيلي وفي صفوف قواته المسلحة، وظهور بداية التحول في موقف الادارة الامريكية تحاشيا لاستمرار حلقة العنف.

ومع ذلك فإن التأجيل لا يعني نهاية الحرب، ولا يضع مسيرة التسوية السلمية على الطريق الصحيح، ولكنه يعتبر مؤشرا على أن الاشهر الماضية التي مارست فيها حكومة شارون كل أسباب العنف والقتل والتدمير والاعتقال لم تحقق الهدف في استسلام شعب فلسطين وقياداته الوطنية، وانها ابرزت روح المعارضة ضد استمرار الحرب والعدوان داخل المجتمع الاسرائيلي، وهي بادرة تظهر ان شمعة السلام لم تنطفىء فوق أرض اسرائيل، وان انصار السلام مازال لهم دور في قرار الحكومة الاسرائيلية، وهو مازال حتى الآن محدودا لم يصل بعد الى ما كان عليه في الماضي عندما احتشد نصف مليون شخص في تل ابيب اعتراضا على غزو لبنان عام 1982، وعندما احتشد ايضا نفس العدد تقريبا للاستماع الى آخر خطاب لاسحق رابين قبل ان تصرعه رصاصات المتطرفين الاسرائيليين الذين يسيطرون على الحكم اليوم في حكومة تحالف الليكود.