ابو عمار... والتصحيح التهاماً ومن دون عسر هضم!

TT

في اعقاب هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 ارتأى الرئيس جمال عبد الناصر لإطفاء نار الغضب في النفوس ان يوجه بياناً الى الامة بثه التلفزيون المصري والاذاعات قال فيه انه يتحمل مسؤوليته في الكارثة التي حدثت وانه في ضوء ذلك قرر التنحي من منصبه كرئيس للجمهورية والعمل مع الشعب من اجل الثأر من الهزيمة. وقيل ان البيان الذي صاغه صديقه الكاتب والصحافي محمد حسنين هيكل تضمَّن فقرة تفيد بأنه يتحمل نصيبه من المسؤولية لكن عبد الناصر شطب العبارة ليبدلها بعبارة «اتحمل المسؤولية كاملة».

هذه اللفتة الذكية من عبد الناصر كان لها مردودها الطيب حيث ان الجماهير نزلت بعفوية الى الشوارع تنادي ببقائه حباً له او تقديراً لموقفه او تعاطفاً معه او خوفاً من المجهول.. لا فرق، مع الأخذ في الاعتبار أن كل هذه الحيثيات قد تكون تفاعلت في نفس المواطن المصري. ثم استجاب عبد الناصر الى هذه المشاعر الشعبية العفوية واستمر في موقعه يحاول تصحيح ما يمكن تصحيحه بدءاً من قيادة الجيش المهزوم شر هزيمة مروراً بالمناخ السياسي السائد، وصولاً الى ترشيد العلاقات مع الآخرين، وعقلنة ظاهرة الصراعات بين مراكز القوى، ووضع دستور ثابت ينشر الطمأنينة في النفوس، ويكون القضاء هو السلطة التي لا سلاطين فوقها ويكون الجيش هو المؤسسة التي تعيد بناء القوة العسكرية وفق مفاهيم بعيدة عن الشللية وظاهرة مراكز القوى التي اصابت المؤسسة العسكرية بعدما كانت نخرت في جسم المؤسسات المدنية.

ومع ان حادثة انتحار صديق عمره المشير عبد الحكيم عامر (دحلان تلك المرحلة ورجوبها) بعد محاولة من الرجل للالتفاف على عبد الناصر وعلى من حوله، احدثت شرخاً في صفوف الحكم المصري، إلاَّ ان الإلتفاف الشعبي الذي اتسم بالعفوية حول عبد الناصر جعله يواصل تصحيح ما يمكن تصحيحه، وجعله وهذا هو الأهم، يسافر الى الخرطوم للمشاركة في القمة العربية الاستثنائية التي عُقدت هناك وهو بنصف معنويات ثم عاد بمعنويات عالية جداً ومجبور الخاطر من العاصمة السودانية التي استضافت قمة ما كان يحلم بها احد. ثم تَواصَلَ العهد الناصري في مصر وفي اتجاه اعادة بناء الجيش لإزالة آثار العدوان الى ان دنت لحظة الأجل وتوفي عبد الناصر عصر يوم 28 سبتمبر (ايلول) 1970 بعدما كان انجز المصالحة الاردنية ـ الفلسطينية وودع بنفسه الملوك والرؤساء الذين شاركوا في القمة التي وضعت حداً للاقتتال بين القوات الاردنية والمقاومة الفلسطينية. وكان آخر المغادرين امير الكويت (الراحل) الشيخ صباح السالم الصباح.

لمجرد مواراة عبد الناصر الثرى في الضريح الذي كان اختاره بنفسه في باحة مسجد يحمل اسمه ويقع على مقربة من منزله في منشية البكري والذي شهد ذات ليلة أعنف مواجهة بين صديقين (عبد الناصر وعبد الحكيم عامر) بحضور بعض الرفاق التاريخيين الذي قاموا بثورة 23 يوليو (تموز) 1952 ومن قصر القبة (قصر الرئاسة) الذي ادار منه شؤون البلاد والعباد طوال ثماني عشرة سنة عاصفة وحافلة بالصراعات والتحديات... لمجرد مواراة عبد الناصر الثرى بدأ المصريون يتساءلون بينهم وبين انفسهم: لماذا ترك عبد الناصر امور البيت تصل الى ما وصلت اليه؟ ولماذا لم يتنبه الى ان الصورة التي رسمها الإعلام من جهة والقيادة العسكرية من جهة اخرى ليست وردية على الإطلاق؟ ولماذا استدرج اسرائيل الى الحرب وهو غير مستعد؟ ولماذا لم يضع حداً لعشرات الديناصورات داخل النظام؟ ولماذا لم يترك للقضاء هامشاً رحباً ولحرية التعبير مساحة واسعة؟ ولماذا هذا الهيلمان للمخابرات والمباحث يمارس سلاطينها ما في اعتقادهم انه يحمي النظام من الاعداء فإذا باسرائيل تنقض على هذا النظام من بوابة الاخطاء المتراكمة ومنها ان عبد الناصر لم يكن متنبهاً ما فيه الكفاية الى ما يدور داخل البيت المصري مهتماً اكثر ببيت العالم الثالث والبيت العربي. ومع هذه التساؤلات التي اوردنا الجزء البسيط منها وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان المصريون يعتقدون انه لو صحح عبد الناصر احوال البيت المصري وقصقص اجنحة الكثيرين وسارع الى تقليم مخالب البعض ولم يعتمد القاعدة المقدسة في العالم الثالث وهي ان اهل الثقة يتقدمون على اهل الخبرة، لما كانت هزيمة 1967 حدثت، او فلنقل انها كانت لن تأتي على النحو الذي جاءت عليه، وإن كان الاعتقاد الراسخ هو أن الهزيمة يجب إلحاقها بعبد الناصر سواء تنبه ام لم يتنبه، او استدرج اسرائيل ام لم يستدرجها، أو صحح الخطأ المتراكم في المؤسسة المدنية والمؤسسة العسكرية والامبراطورية الامنية بجناحيها المخابرات العامة والمباحث ام لم يصحح. فالمستَهدَف هو شخصه وزعامته والهالة التي لا يمكن هزها الا بهزيمة عسكرية كتلك التي حدثت يوم 5 يونيو 1967 وتعطيل قناة السويس التي هي بداية المجد الذي تَحقق له من جرَّاء تأميمها. والتعطيل يكون بوصول الجيش الاسرائيلي الى الضفة الشرقية لهذا المجرى المائي المهيب والتمركز على هذه الضفة، وهذا ما حدث بالفعل وشكَّل ما يجوز النظر اليه على انه اعادة اعتبار لبريطانيا التي سبق ان اجلاها عبد الناصر عن القناة بفعل التأميم.

هذا ما بدأ المصريون يقولونه في مجالسهم. انما من دون الطعن بوطنية عبد الناصر، عدا حالات استثنائية كان صوت الناقدين والشامتين عالياً وكانت المفردات القاسية في احاديثهم واحكامهم تستند الى الضرر الذي الحقته بهم الاجهزة ومراكز القوى في الحقبة الناصرية طوال ثماني عشرة سنة. والذي شجعهم على ذلك ان الرئيس الخلف انور السادات استعمل ورقة الحريات ليثأر بها من عشرات ديناصورات الحقبة الناصرية الذين طالما استهانوا به، فضلاً عن انها ورقة لها شعبيتها وتلقى من الناس القبول والارتياح، عِلْماً بأن توظيف المتضررين من الحقبة الناصرية لهذه الورقة وضع الرئيس انور السادات في دائرة الظن بأنه ضمناً مع التجريح بالحقبة الناصرية وشكلاً ضد ذلك.

قطع الرئيس السادات شوطاً في ما يتعلق بورقة الحريات، إلا انه بدأ بعد ذلك يُشذِّبها على طريقته فوجد نفسه يقع في ما سبق ان وقع به الرئيس السلف. وجاء بعد ذلك الرئيس حسني مبارك، وفي اعقاب اغتيال السادات في حادث المنصة الشهير، يبدأ عهده بتصحيح التصحيح الساداتي للاسلوب الناصري حيث افرج عن اهل الفكر والسياسة وبعض رجال الدين المسلمين والمسيحيين الذين حشرهم السادات في المعتقل. وهو حتى الآن يواصل عملية التصحيح.

ما حدث لمصر وعبد الناصر ثم لمصر والسادات، يحدث مع بعض التعديلات الجذرية للقيادة الفلسطينية في اعقاب العدوان الشاروني غير المسبوقة شراسته على نحو ما تابعناه على الفضائيات. ومن حسن حظ الرئيس ياسر عرفات ان هذا العدوان بكل تفاصيله واساليب تنفيذه حدث بينما هو في الداخل وليس خارج اراضي السلطة الوطنية لأنه بذلك كان سيبدو مجرداً من اي دور، فلا هو الى جانب الشعب ولا هو في الخارج قادر على اكثر من التنقل من عاصمة عربية الى اخرى وإلى بعض عواصم الدول الصديقة.

وما يقال في شأن حسن حظ التواجد داخل فلسطين وليس خارجها منذ ان بدأ العدوان الشاروني ووصل الى حد الجرف والتدمير والاغتيال وتقطيع الاوصال، يقال ايضاً في شأن محاصرة عرفات، بمعنى ان حصاره على رغم مراراته وعذاباته افاد لأن تعذيب الهيبة العرفاتية باتت بذلك جزءاً من العذاب الفلسطيني العام، فضلاً عن ان الحصار كحالة والتعامل العرفاتي مع هذا الحصار والاجواء التي رافقت الحصار والعبارات التي اطلقها الرئيس الفلسطيني والتي تحولت الى لازمة نضالية ومنها قوله «يُريدونني قتيلاً او طريداً. لا، انا اقول لهم: شهيداً. شهيداً شهيداً شهيداً» ساهمت في اظهار ابو عمار على انه الشهيد الحي وافادت في نفض غبار الاتهامات التي علقت بكوفيته من انه تنازل اكثر مما يجب واخطأ اكثر مما يجوز وجعل المرونة استراتيجية بدل ان تكون مجرد وقفات تكتيكية.

ما يقوله الفلسطينيون الشغوفون بالتنظير في مجالسهم هو أن الذي اصاب القضية من عمان الى بيروت الى رام الله ما كان ليصيبها لو ان ياسر عرفات لم يتصرف بطريقة جمع فيها بضعة اساليب من بينها الاسلوب الناصري والاسلوب الساداتي وخرج من جراء عملية المزج هذه بالاسلوب العرفاتي مع فارق ان الحصار الشاروني له وصموده في هذا الحصار جعل منه الزعيم الذي يجب على الفلسطيني ان يغفر له كل اجتهاداته وكل اختياراته العشوائية للحلقات المحيطة به وبالذات بعض رموز هذه الحلقات من امنيين وسياسيين كانوا على اهبة ان يتعشوا «ابو عمار» فإذا به يتغداهم بالتصحيح، ويأتي الغداء التهاماً... ومن دون اي عسر هضم.