كي «لا تضيع» القضية الفلسطينية مرة أخرى؟

TT

لا تملك السلطة الفلسطينية، كمخرج من الحالة التي اوصلها اليها الاجتياح الاسرائيلي الاخير للضفة، سوى منع العمليات الانتحارية، للعودة الى طاولة المفاوضات. سواء كان عرفات ووزراؤه الحاليون هم المفاوضين باسم الشعب الفلسطيني، ام كان غيرهم، كما تطلب اسرائيل. ولا تملك الدول العربية لوقف «ضياع» القضية الفلسطينية، مرة أخرى، سوى هذا المشروع السلمي الذي اقرته قمة بيروت.. والذي رفضته اسرائيل. وشتان بين هاتين القدرتين المحدودتين، وقدرات اسرائيل العسكرية والسياسية والاعلامية التي تقف وراءها لترفض السلام العربي وقيام دولة فلسطينية واعادة الاراضي العربية المحتلة.

ذلك هو الواقع بكل مرارته وبشاعته، بل تلك هي الحقيقة القاسية التي تواجه الامة العربية في هذه المرحلة الصعبة من نزاعها التاريخي والمصيري مع اسرائيل. وان كل تجاهل او انكار لهذه الحقيقة انما هو طمر للرأس في الرمل او هروب من الحقيقة.

ثمة حقيقة أخرى مؤلمة وهي موقف الولايات المتحدة الاميركية، التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني في دولة، ولا تفعل شيئا لمساعدته في اقامتها، بل تتبنى معظم شروط اسرائيل لتفريغ هذه الدولة، قبل قيامها، من قياداتها التاريخية ومن ارضها وسيادتها واستقلالها، فأمن اسرائيل وسلامتها بالرغم من انها تعرف اكثر من غيرها انهما غير مهددين يتقدمان عندها على الشرعية الدولية وكل المبادئ والقيم التي «تنادي بها» وفي طليعتها حق الشعوب في تقرير مصيرها.

وتبقى الحقيقة الكبرى التي لا تحتاج لأي دليل وهي استبعاد حكام اسرائيل، ليكوديين كانوا أو «حمائم» عسكريين أو اصوليين أو «ديمقراطيين» للسلام الذي يقبل به الفلسطينيون والعرب، حتى ولو كان اقل بكثير من الحقوق التي يعترف المجتمع الدولي والامم المتحدة لهم بها.

شارون ووزراؤه يدعون انهم مستعدون لاستئناف محادثات السلام، متى توقف العنف الفلسطيني، والفلسطينيون والعرب والمجتمع الدولي يعرفون ان شارون يكذب ويناور. فمن يريد السلام او هو مقتنع بحسناته، لا يستمر في بناء المستوطنات المحصنة، ولا يحيط حدوده بأسلاك شائكة وجدران عازلة واجهزة مراقبة ولا يشترط على من يفاوضه على السلام اثبات خضوعه وتبعيته له سلفا. فقد تتوقف عمليات العنف الفلسطينية، وقد يجلس شارون او غيره من القادة الاسرائيليين الى طاولة المفاوضات مع عرفات وصائب عريقات او غيرهما من ممثلي الشعب الفلسطيني، لا ليتفقوا معهم على السلام وشروطه، بل لينبشوا في كل جلسة سببا او ذريعة، للابتعاد بالمفاوضات عن الحل. واذا لم يجدوا ذريعة سياسية استثاروا على يد مخابراتهم، وبطريقتهم المكيافيلية البارعة، اعمال عنف تدفع الجماعات والعناصر الفلسطينية والعربية المتطرفة الى الرد عليها بعنف «ارهابي» فيصبح هذا الرد حجة في يدهم لتعطيل المفاوضات وتحميل عرفات والفلسطينيين المسؤولية.

ان الاصوات اليهودية الداعية للسلام مع العرب ولتعايش اسرائيلي ـ فلسطيني، في دولتين متجاورتين ليست معدومة في اسرائيل ولا بين اليهود الاوروبيين والاميركيين. ولكن اكثرية الشعب الاسرائيلي اقرب في تفكيرها وهواجسها من تفكير شارون والليكود. لقد جاءت عملية 11 سبتمبر «شحمة على فطيرتهم» ونجحوا، حتى الآن في جر الرأي العام الاميركي وراءهم تحت شعار «التحالف في مقاومة الارهاب» بعد ان كان نفوذهم مركزا على البيت الابيض والكونغرس.

لا يحتاج الانسان ازاء هذه الحقائق، لكثير من الذكاء وحسن التبصر ليدرك ان السلام في الشرق الاوسط ـ كما يسمى ـ قد تباعد افقه كثيرا بعد عمليتي نيويورك وواشنطن. صحيح ان الادارة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي، لم تعلن الحرب بعد على الدول العربية والاسلامية وانها تعد لمؤتمر سلام دولي، وان قيام الدولة الفلسطينية بات امرا مفروغا منه دوليا، ولكنه صحيح ايضا ان الحديث الدولي عن ازالة المستوطنات قد انخفض، وان الفلسطينيين والعرب والمسلمين بوجه عام، اصبحوا يشكلون «الخطر» او «العدو» الجديد في نظر الشعب الاميركي وقسم كبير من الشعوب الغربية، بما في ذلك الشعب الروسي.

ان حظ المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط ـ هذا اذا انعقد ـ في النجاح ضئيل، كما هو ضئيل نجاح اي مفاوضات فلسطينية ـ اسرائيلية في ظل الحرب العالمية على الارهاب التي تخوضها الولايات المتحدة والتي تحتل اسرائيل اليهودية العالمية، مقعد الحليف الاول فيها. فهل تترك الدول العربية والاسلامية الامور والاحداث جارية نحو المجهول، مكتفية بالصمود وراء مشروعها للسلام؟ ام تتفق على خطة متوسطة المدى لوقف تدهور الاوضاع واستفادة اسرائيل منها، اذ ان الاتفاق على استراتيجية عربية واسلامية واحدة يبدو صعبا جدا؟ الكاتب الصحفي توماس فريدمان، لا يرى مخرجا من الحلقات المفرغة التي يدور فيها الفلسطينيون والعرب والاميركيون سوى حصر مؤتمر السلام بموضوع واحد هو حدود الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية. وقد يكون هذا الاقتراح عمليا لو لم يكن من شأنه اثارة كل مواضيع النزاع العالقة، فالراديكاليون العرب والمسلمون ما زالوا مصرين على القول بأن المقاومة والعنف والعمليات الارهابية الاستشهادية، هو كل ما تبقى من سلاح في يد الفلسطينيين والعرب وان اسرائيل لن تتراجع الا تحت ضغط العنف. اما اسرائيل فقد نجحت في اقناع الولايات المتحدة ودول أخرى بأن العنف الذي تتعرض له انما هو العنف ذاته الذي ضربها في 11 سبتمبر ويهدد امنها وسلامتها بل ويهدد الحضارة الغربية برمتها. والمعارك السياسية والاعلامية التي تعد اسرائيل لها العدة هي: 1 ـ استعداء الاوروبيين بعد الاميركيين على العرب والمسلمين المقيمين في الغرب كوسيلة او سبب لافقاد الفلسطينيين والعرب التفهم والتعاطف الاوروبي مع قضاياهم.

2 ـ تسخين النزاعات الداخلية بين الانظمة العربية والاسلامية، وبين بعض الدول الاسلامية وجاراتها (الهند ــ باكستان، مثلا) تمهيدا لاندلاع حروب اهلية في هذه الدول.

3 ـ افساد العلاقات بين الدول والشعوب العربية والاسلامية وبين بعض الدول الكبيرة كروسيا او الصين والهند، وليس في يدها من وسيلة لاشعال الحروب الداخلية وافساد علاقات الدول العربية والاسلامية بالعالم سوى عمليات العنف والارهاب التي تقوم بها الجماعات السياسية الراديكالية.

ان مقاومة الدول والشعوب العربية والاسلامية للعدوان او الاحتلال او الاغتصاب الاسرائيلي واجب وفرض، والتغلب على التحدي الاسرائيلي يجب ان يكون خطة او استراتيجية عربية مستقبلية دائمة. ولكن العنف الاعمى والارهاب وعمليات التفجير، مهما اجتهد في تبريرها، ليس افضل رد او سلاح للمقاومة او للتغلب. فقد ارتد هذا السلاح لسوء الحظ على الحق العربي واعطى اسرائيل الفرصة والوسيلة لتوجيه ضربتها الاخيرة للقضية الفلسطينية، ولاقناع الرأي العام الاميركي بأنها نوع من الدفاع عن النفس.