قليل من الهدوء .. الأمة تريد أن تنام!

TT

ها أنا في الغرفة الصغيرة المخصصة للمريض السعودي، في الدور السادس عشر من المبنى الزجاجي الطويل، حيث اقضي ساعات النهار من كل يوم بأمر الطبيب وكاثي، بدل أن أحمل «عدساتي» مثل عصفور في الحقول.

هذه غرفتي المرتبة، لكن بسبب صغر مساحتها تبدو كأنها زنزانة «راقية» ـ وهل هناك زنازين راقية ـ واجهتها المقابلة تحتلها نافذة جدارية واسعة، كأنها من قصائد محمود درويش، حيث السماء والشمس والهواء.

أتجه إلى النافذة، أزيح عن وجهها الستارة، فيدخل الضوء، وإشراقة السماء تملأ المكان الصغير فيصير فسيحاً، كأنني ازحت الألم مع الستارة! وإلى جانب السرير، طاولة الأدوية الصغيرة بأمر الطبيب، الذي يمرّ عليّ كل يوم يسلّيني بالآمال الجميلة.

لكن الطاولة الصغيرة، أصبحت مخصصة لأدوية جديدة، بأمر الحب هذه المرة. عشرات الرسائل الإلكترونية، كأنها الفراشات الملونة تسبقني إلى هناك، انها بانتظاري مثل جرعات دواء سحري يؤخذ بالقلب مباشرة، هذه من «هديل الرياض» وأخرى من «صديق الصحراء». اليوم، مع هذه الرسائل، مقالة رائعة منقولة عن جريدة «الجزيرة» السعودية تحت عنوان «يجب أن لا يموت الأمل». قلت في نفسي، من هذا المغامر الجريء الذي يتحدث عن الأموات بصيغة الأحياء؟ لم أتعجب عندما لمحت اسم الكاتب، وإذا به الاستاذ الفاضل الشيخ سلمان العودة، وهو رجل وإنسان أكبر من أن يُعَرّف. لم يسبق لي وله أن التقينا، لكنني كنت في ما مضى اسمعه صوتاً لا ينطفئ. شريط هنا أو محاضرة هناك. أُعجب به أحياناً وأحبه، لا أفهمه أحياناً، ولا أكرهه. الآن، إذا بي كأنني أعرفه وأفهمه لأول مرة، وإذا بالمقالة تنتشلني نحو النافذة، باتجاه الشمس والسماء والهواء. هذا رجل يتحدث عن الأمل في عالم يكبّله الإحباط واليأس.. ويحتار في كرة السلة ولون الكراسي! ها أنذا مع اللغة التي أفهمها وأحبها، فما بالك إذا جاءت من رجل فاضل من هذا الطراز.

أهلاً بنقطة ضعفي الرائعة أمام أي فكرة أو خاطرة تقول بتحرير الإنسان من قبضة الأوهام الفردية أو الجماعية، من سطوة العلاقات البشرية الفوقية، تلك التي تجعل الإنسان يقع في قبضة عقدة الشعور بالنقص من دون أن يشعر بذلك، بسبب بريق الوعود والأوهام في حفلة عابرة لمن هم «عابرون في كلام عابر». لقد جربتها وتذوقت طعم مرارتها، هناك أو هنا، حيث يخسر الفرد حضوره الإنساني ويدخل في القطيع، لأنه كان مولعاً بالبحث عن حريته، فيتحول عندها إلى كائن صامت ومتوتر في اللحظة نفسها، مثل بركان! يتحدث الكاتب الفاضل عما قد يفسد تجربة الفرد والمجتمع، حتى وإن كانت النيّات رائعة مثل نخيل الصحراء. كأنه يريد أن يقول، ها قد حان وقت فتح نوافذ الشمس والهواء وضجيج الحياة، لكي نشعر أننا أحياء ولسنا في مقبرة.

كأنني به يريد أن يحرر نعمة الحواس والعقل والإدراك، كأنه يريد أن ينفض عنها الغبار.

عندما وصلت إلى العبارة التالية: «ولقد أخطأت يوماً فوضعت مفتاح الباب لباب آخر، فوجدته يتعصى عليّ، فقلت لنفسي، سبحان الله، كيف لا أعتبر من هذا المثال الصغير لما فوقه؟».. فإذا بها العبارة التي تحلّق بي. عندها نهضت من سريري باتجاه النافذة، وقد أمسكت بأنبوب كأنه من أنابيب النفط أو الغاز في بلاد القوقاز الجديدة، لكنه يمتد إلى نافذة صغيرة ومشرعة في الجزء الأيسر من القفص الصدري.

ناديت كاثي: أرجوك حرريني من قبضة هذا الدواء إلى قبضة القلم والنافذة! ثم استبدلت دواء الطبيب بالتي هي الداء، تلك هي الكتابة. استويت في مكاني إلى جوار النافذة كأنني فيثاغورس خارجاً من نومه.. وجدتها.. وجدتها. صورة الباب والمفتاح، كم كنت مولعاً بتصوير الأبواب التي كنت أراها مفاتيح الأسرار.

لكن لم تخطر ببالي صورة من هذا الطراز، أثارت عقلي ومخيّلتي وجنوني.. ومعها زوبعة الأحزان والألم كذلك.

صورة المفتاح الخطأ في الباب الحقيقي، احدى الهوايات المغضلة لهذه الأمة! أخذت هذه المقالة إلى البعيد، خرجت من العيادة ومن المدينة ومن اللحظة، رحت كمن يريد أن يأتي بقبس... أو يبحث عن هدى.

كنت قد توقفت عن مشاهدة نشرات الأخبار أو قراءة الصحف، كجزء من محاولة تجنب الألم، خاصة أن الرحلة تبدو طويلة... والزاد قليل. لكن في النفس سراجا يضيء العتمة (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)، من هنا يشرق الأمل ويطرد الألم (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون). من هنا تشرق الحياة بمفهومها الفطري كحق يجب أن نتمسك به، ندافع عنه، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل المجتمعات كذلك.

كنت قد أشعلت قنديل أمل صغيراً وسط الظلام عندما توقف الأمير عبد الله بن عبد العزيز قبل أيام هنا في هيوستن. لقد ترك لي بهذه الزيارة قبساً من نور أمل أتسلى به وأثقب فيه جدار الظلام العربي الذي يحيط بنا، كأنه سور برلين ينهض من جديد.

كنت أدرك لماذا ينتابني هذا الشعور، ليس لأنني أنا وهذا الزعيم نسكن في الحي نفسه، وليس لأنه الرجل الثاني في وطني، بل أكثر من ذلك، لأنني في داخلي أعتقد أن الرجل الذي قرر حمل هذه المسؤولية الصعبة والمتوترة والمعقدة في هذا الزمن العربي، يفعل ذلك لأنه في قرارة نفسه يشعر ويعرف أن عليه أن يستجيب لطرازه الخاص، لنكهة جزيرة العرب وصهيل الخيول، لأنه يعرف أنه يرمز في ذاته الإنسانية والسياسية إلى مصداقية حقيقية، تضع مصلحة الأمة في مقدمة الأشياء، تضع العربة خلف الحصان، كان عليه أن يبحث لأمته عن مفتاح بابها الضائع وسط الخراب والدمار.

وقد جرّبناه قبل هذه اللحظة التاريخية المهمة في اللحظة المشابهة، إذ اختار لنفسه المهمة الصعبة منذ البداية. لقد دفن بيديه، يد الحكمة ويد الحسّ السياسي والمسؤولية التاريخية، بحيرة الكبريت الخطيرة، التي حفرت بليل وأحيطت بغابات يابسة وعطش، بين بلاده ـ منارة العرب وقبلة الإسلام والمسلمين ـ وجارتها المسلمة الكبرى إيران! وقد يحتاج العرب والمسلمون، وربما حتى السعوديون، إلى وقت طويل ليعرفوا أهمية هذا الإنجاز السياسي العظيم، الذي يبدو وكأنه بنى لتطلعات الأمة جسراً تعبر من خلاله نحو المستقبل بدلاً من التوتر والدمار! كنت بانتظار هذه الجولة أن تنتهي، فأُشعل على ضوء نتائجها شمعة بدلا من أن ألعن الظلام، وقد شعرت من خلال قراءات سريعة، أن هذا الإنسان فعلاً مهموم بترتيب أولويات أمّته، بل أحلامها، ونحن جزء من أحلام هذه الأمة وتطلعاتها، بأحلامها نحيا ونعيش، وإذا بهذه المقالة تأتي مثل سحابة ممطرة تخطفني من الألم، وترشقني بصورة العبارة الرائعة حول حكاية الباب والمفتاح.

لقد تشابهت على الأمة مفاتيحها، بل حتى أبوابها، وقد يغفر لنا التاريخ ذنوبنا الصغيرة، عندما تختلط علينا مفاتيح صغيرة ومتشابهة في زمن أصبح للنوافذ أقفالها. لكن التاريخ لا يغفر الذنوب والخطايا الكبيرة، أشك أن التاريخ سوف يغفر لأمة تسمح لنفسها بأن تتشابه عليها الأبواب، فتصبح المفاتيح لا قيمة لها. نحن الآن نطرق أبواباً لا تقود إلى المستقبل، نحن أمة تركض بالاتجاه الخطأ.. تريد أن تبدأ من النهاية بالاتجاه المعاكس.

كنت أتسلى أو أحاول، فأتصفح هذه الجريدة من خلال بعض الأعداد المتراكمة خارج اللحظة، فأشعر أحياناً أنني أعجل لنفسي مرارة الألم، ولا أبالغ، لأنني لا أقرأ الأشياء عبوراً، بل أتداخل معها، خاصة تلك الأشياء التي لها علاقة ببلدي أو بمستقبلي أو بحياتي وحياة أهلي، فما بالك بتلك الأشياء التي كانت ولا تزال تعصف بحياتك وقد أخذت شيئا من رفاهيتك، بل من فاتورة علاجك وتعليم أبنائك. على صدر هذه الجريدة، وفي الموقع المميز للأخبار المثيرة والمميزة، تقرير إخباري مثير يقول على لسان والد السعودي الأمريكي ـ في أول حديث صحافي ـ «إن ياسر هرب سراً إلى البحرين ومنها إلى أفغانستان». وجه كأنك تعرفه. سبق صحافي مثير، وهو كذلك منذ عشرين عاماً.. منذ أن ضاع المفتاح من يد الأمة، فمنهم من كسر الباب ومنهم من دخل البيوت من غير أبوابها! في الصفحة نفسها من الجريدة، وعند قعرها الأيسر، خبر أكثر ألماً وإثارة وسخرية، وعلى عامود واحد، يقول الخبر ـ كلينتون يطلب 50 مليون دولار لتقديم برنامج تلفزيوني.

في المساحة الفاصلة بين مساحة الخبر الرئيس في أعلى الصفحة عن قصة ياسر، وبين عنوان هذا الخبر في قعرها، يحتشد التاريخ وكأن المسافة طريق الحرير الجديد.

تختلط بين السطور والصور قبعات رجال المافيا والقساوسة، المفاتيح المسروقة والمفقودة والمتشابهة. أريد هنا أن أمارس هوايتي المفضلة، أريد أن أصرخ في وجه هذا الهدوء الذي يسبق الهدوء! هذا ليس هو المفتاح، بل هذا ليس هو الباب أيضاً، هذا ليس نحن.

نحن أيها السادة أمة محمد، نحن لسنا غزاة، نحن أهل حضارة ذات أصول وفن وإبداع، ذات ابن سيناء وابن رشد..

أرجوك «كاثي» صدقيني!..

*** أين ذهب كل هذا البريق، ما أشبه الليلة بالبارحة، كأنني اسمع هذه العبارة، المكررة ألف مرة ومرة، لأول مرة، كأنني أسمع أم آخر ملوك بلاد الأندلس عبد الله الصغير.. إبك مثل النساء! نحن نخرج، بل نطرد، من أحلامنا وآمالنا، وحريتنا وكرامتنا، كأنما يُقذَف بنا خارج القطار، وفي منطقة لا ماء فيها ولا شجر! كأن السماء صارت مثل سقف بيت طيني اقتحمته الرمال المتحركة، كأن السماء أصبحت أشد انخفاضاً مما هي عليه.

لم يعد بمقدورنا أن نرفع رؤوسنا أو نمد قاماتنا عالياً. نحن العرب في مواجهة كارثة حقيقية، تتجاوز أزمة الواقع والمراحل، لقد انتقلت عوارض المرض الخبيث إلى قلب المستقبل.

أمة تعد أبناءها بالجنة، ثم تقدم لهم مفاتيح الجحيم. هناك ألف ياسر وياسر، ومن خلفهم آلاف الضحايا الأبرياء من الأطفال والأمهات، وهؤلاء بحاجة إلى من يدفع لهم ثمن فاتورة الألم والحرمان والصقيع الإنساني الذي لا ينتهي، وكتاب المدرسة وكراسة الألوان.

لكن، مع كل هذا البكاء، ومع سبق الإصرار والترصد، أؤكد إعجابي الشديد بهذه الحضارة الغربية، ليس فقط لأنها تعالجني وتسهم في إنقاذ حياتي، بل لأنها تنظر لمستقبلها ومستقبل أجيالها بعزيمة لا تكلّ ولا تملّ، إنهم يعملون ليل نهار، وبإخلاص، من أجل تحقيق تطلعاتهم ووجودهم وبناء حضارتهم، كما كنا نفعل قبل ألف عام، ويتصرفون حيال المستقبل وكأن الحرية هي عقيدتهم الوحيدة، وكرامة المواطن هي دستورهم، مثلما كنا نفعل قبل ألف عام وأكثر. ان حضارة الغرب الرائعة تأخذ وجودها على محمل الجد فتبني المدارس والجامعات والمستشفيات بما يليق بكرامة وحرية وطموحات الإنسان، فيصبح كل فرد أمة لوحده. مثلما لم نفعل أبداً منذ ألف عام حتى الآن.

حضارة تعرف أولوياتها لمائة سنة مقبلة، ولا تسمح أن يعبث بهذه الأولويات.

أتحدى أي دولة عربية تستطيع أن تعلن عن أولوياتها وتلتزم بها لمدة 50 سنة مقبلة.

*** لقد جرّبنا ألف مفتاح ومفتاح، ولم نفتح الباب، لم يخطر ببالنا أن الباب ليس هو الباب! تكاد كمية الأوكسجين المتاحة لنا أن تنفد من محيطنا العربي، وكذلك الهواء، وهو ما يهدد الأسماك والعصافير والفراشات.

نحن في مأزق حقيقي ليس مع «الآن» بل مع ما هو أخطر، نحن في مأزق مع المستقبل المسكين، نحن أمة مسكينة، والمسكين هو من سكن إلى ما بيد غيره. وأزيد على تعريف لسان العرب، إلى من سكن لما بيد غيره من المفاتيح، لا اقصد مفاتيح السجون ومراكز التوقيف، اقصد مفاتيح المستقبل: الجامعات، ومراكز البحوث، والإبداع، والفكر، والفلسفة.

كأني أرى الباب وقد أوصد بوجه الأمة ويداها مشدودتان إلى الخلف، مثل صورة أسير يظهر على شاشة التلفزيون بصورة عابرة. وعلى الرغم من هذا وذاك، أقول معك: يجب أن لا يموت الأمل، قليل من الضوء في الظلام، قليل من الشموع.

قليل من الهدوء، فالأمة متعبة برجالها من وعثاء السفر، انها تريد أن تغفو قليلاً أو هي تريد أن تنام.

لعل حلماً قديماً يعبر ذاكرتها، لعل عابر سبيل غريباً اسمه صلاح يمر بها فيوقظها، أو ينفض عن جفنها الغبار.

أرجوكم، توقفوا عن الصراخ.. أمتكم تريد أن تنام! [email protected]