جنازة ضاحكة جدا

TT

في ما عدا الأطايب الحسية، لا تكون للإنسان متعة إلا إذا شارك فيها سواه. فلا الثياب أنيقة إذا لم يرها الآخرون. ولا السيارة خليقة إذا لم يقدرها سوانا. ولا الردهة مريحة إذا لم يقل الضيوف ذلك. وحتى الكتاب، الذي هو خير جليس في الأنام، يصبح أكثر متعة إذا ما ناقشناه أو شعرنا أن غيرنا قد وجد فيه قيمة البهجة نفسها. والكاتب، في صورة خاصة، كلما وقع على شيء فكر في قارئه. فهو يتحول، بصورة آلية، إلى مراسل لدى الناس، ويخبرهم بما خبر، ويعلمهم بما علم، ويسرهم بما رأى أو تراءى له. وهما عادة، القارئ والكاتب، يشاهدان الشيء نفسه ويعرفان المعرفة نفسها، لكن القارئ يظل يتوقع من الناقد المسرحي أن يسمع رأيه في المسرحية التي شاهدها، وينتظر من عبد الله القبيع ملاحظاته في البرنامج الذي شاهده. وغم الكاتب، الحقيقي، أن تمر به متعة لا تقدم إلى غيره: أن يقرأ كتابا لا يعني قارئه أيضا. وأن يبتهج بمؤلف غير معروف لدى قرائه. وقد وقعت في هذا مرتين هذا الأسبوع. الأولى أنني، بمحض الصدفة، في أعالي «سان بول دوفانس» وعلى بعد برهة من «كان»، حيث أزاول متعة المشي على كتف المتوسط دون تلوث ومازوت وزمور. وفي «كان» هذه الأيام مهرجانها السينمائي الذي هو ثاني حدث فني في فرنسا بعد جائزة «غونكور» الأدبية. وبمجرد أن تمشي على الرصيف العريض يمكن أن تلقى بصورة عفوية نجما مثل شون كونري أو جاري العزيز عبد الله باجبير. وخطر لي مرات كثيرة، أنني ما دمت هنا، فلماذا لا أكتب خواطر أو مشاهدات عن المهرجان. ثم قلت في نفسي، استح على شيبك يا رجل، الدنيا حزينة في دنياك وجنابك تقول للناس إن جوليا روبرتس ترتدي طقما أصفر. بلاها.

المرة الثانية، والأكثر أهمية، أنه توفي في أميركا واحد من أشهر الممثلين الهزليين، ميلتون بيرد، عن 93 عاما. وقد تعرفت إلى أعماله وبرامجه خلال إقامتي في كندا، لأن معظم نشاطه كان في التلفزيون، لا في السينما. وبالتالي فإن الأكثرية الساحقة من القراء لا تعرف عنه شيئا. فما معنى أن أكتب عنه أو أن أعدد أشهر دعاباته. وأغفلت الأمر. لكن هذا الأسبوع صدرت مجلة «نيويوركر» وفيها وصف لجنازة الرجل التي حضرها جميع الكوميديين الباقين على قيد الحياة من جيله نحو عشرة! وبدل ذرف الدمع اتفقوا جميعا على إرسال النكات. وعندما غرقوا أخيرا في الدموع، كانت دموع الضحك. ولما ساد لفترة قصيرة صمت تام رن جهاز النقال في جيب أحد الحاضرين، فتضايق الجميع، لكن أحد الكوميديين سارع إلى المنبر معلنا «إنها أمي، تريد أن تنبهني بألا أنسى كنزتي الصوف». وكان طبعا في التسعين! والحدث ليس هنا. الحدث أن التي غطت وصف الجنازة هي ليليان روس، سيدة المراسلين الكبار في أميركا، وأستاذة الوصف المفصل في الصحافة الغربية. ولعلها أيضا جاوزت التسعين. وكنت اعتقدت منذ سنوات أنها غابت لأنني لم أعد أقرأ لها شيئا، فإذا بها تفيق من أجل جنازة ضاحكة.