مذبحة إيرفورت

TT

عند الساعة 11 ظهرا من يوم 26 ابريل من عام 2002 اقتحم الطالب (روبرت شتاين هويزر ـ 19 سنة Robert Stein Haeuser) ثانوية (جوتنبرغ gutenberg) في مدينة (إيرفورت Erfurt) الالمانية وعلى ظهره كيس مليء بالاسلحة والذخائر. فغطى وجهه بقناع ثم دخل المبنى وهو يحمل مسدسا وبندقية قصيرة من نوع (Pumpgun)، فقتل في الطابق الارضي السكرتيرة (انيليزه شفيرتنر Anneliese Schwertner). واكمل بها في نفس الغرفة بنائبة المديرة (روزيماري هاينا Rosemarie Haina). ثم اعتلى الادوار وهو يمشطها واحدا بعد واحد. ويصطاد الاساتذة والمعلمات مثل العصافير بدون اجنحة وبقتل مباشر في الممرات أو امام اعين التلاميذ في الحصص ومن مسافة قصيرة وبسلاح شديد التفجير لا ينجو منه احد وبيد مدربة تماما، فقد كان حائزا شهادة التدريب على اطلاق النيران من النادي المحلي وكان حصاد الهشيم 15 قتيلا. ثم قفل عائدا من الطابق الثالث بعد الحملة الانتقامية وصادف في طريق العودة استاذ التاريخ (هايزه Heise) ولكنه عف عنه لسر غامض. ثم هبط الى الحديقة وهناك قتل معلمة الفنون (بيرجيت ديتكيه Birgit Detike) ولما رأى ان لا أمل له بالنجاة دخل البناء مرة ثانية وقتل الشرطي (اندرياس جورسكي) فأكمل به 16 ضحية. وفي الطابق الاول خلع عن رأسه القبعة ليجتمع بمدرس التاريخ هايزه مرة ثانية فصاح به انت هو إذاً روبرت. اجاب بهدوء: نعم ويكفي اليوم حصاده. كان مدرس التاريخ محظوظا فالشاب ما زال مسلحا ولكن فورة الدم كانت قد هدأت فاستطاع دفعه الى غرفة ملابس صغيرة وأغلق الباب عليه. وهنا دوى صوت طلقة فقد كان شتاين هويزر ينزف دما من فك مدمر وطلقة اخترقت الجمجمة. وبذلك اجتمع في العالم الأخروي 17 فردا يختصمون في حصيلة مروعة لم يشهدها العالم حتى الآن في صراع الطلبة والاساتذة.

وكانت امريكا قد ضربت الرقم القياسي. ولكن الألمان بدقتهم المعهودة خرقوا الرقم القياسي في هذا السباق. حضر الجنازة الجماعية مائة الف ويزيدون من كل ألمانيا ومنهم رئيس الجمهورية في جو من الصدمة والعزاء ادخل الشلل الى التفكير لكل ألمانيا. والسؤال: كيف يحدث مثل هذا في مجتمع يسبح في الزبدة والعسل، يأتيه رزقه رغدا من كل مكان ويتمتع بالأمن والرفاه والضمانات الاجتماعية؟ وفي مدرسة عريقة يعود بناؤها الى عام 1908. كتب على واجهتها في المدخل الأيمن: «تعلم من أجل أن تعيش» ويقابلها في الزاوية الأخرى: «عش من أجل ان تتعلم»، وكيف يحصل ان طالبا ثانويا من نفس المدرسة يفاجئ ملقنيه العلم بقتلهم واحدا خلف الآخر في حمام دم لا يرحم؟

ليست حادثة (شتاين هويزر) الاولى من نوعها ففي 20 نيسان عام 1999 اقدم كل من (ايريك هاريس) و(دايلان كليبولد) في ذكرى ولادة الفوهرر (110) وهما يؤديان التحية الهتلرية وعلى ذراعهما شريط يقول: أكره الناس. فقتلا 13 انسانا بين مدرس وتلميذ، وجرحا 28 ثم انتحرا. وحتى عام 1997 تواترت تسعة حوادث مزلزلة في امريكا قتل فيها التلاميذ الاساتذة وزملاءهم. كان اشدها حادثة طفلين لا يزيد الكبير منهما عن 11 سنة قتلا في مدرستهما في مدينة (جونسبورو JONESBORO) من ولاية آركنساس المعلمة واربعة من التلاميذ. وفي أوريجون قتل مراهق بعمر 15 سنة اثنين من الزملاء وجرح 22 شخصا. وفي 9 نوفمبر من عام 99 في (مايسن) في ألمانيا اقتحم طالب ثانوي الحصة وطعن الاستاذة بسكينين 22 مرة فخرت تسبح في دمائها. ولما سئل الفاعل قال: كنت أكرهها.

يعرف القتل الجماعي في الطب الجنائي بظاهرة (الأموك Amok) وهو مرض يصاب به ثلاثة اصناف من الناس: جماعة الشيزوفرنيا (الانفصام)، والمصابون بـ (الاكتئاب) واخيرا (ذوو الشخصيات المضطربة). ويحمله واحد في المليون من الرجال مقابل واحد من عشرين مليونا بين النساء. ولذا كان %95 ممن يتعرض له من الرجال. فأما مجموعة (الفصام) فهم يقعون تحت تأثير تصورات ان قوى شريرة تنصب لهم المؤامرات أو انهم معرضون لهجوم من كائنات غريبة من المريخ وسواه. وهم في العادة قتلة من النوع (المفرق) وليس الجملة. ويقتلون في العادة من حولهم. فقد يخنق الحفيد جدته وقد يقتل الزوج زوجته واولاده بل وامه واباه. و(النوع الثاني) المصابون بالاكتئاب، حيث يستولي عليهم شعور مسيطر باستعادة الشرف كما في نموذج (ارنست فاجنر) الذي ذكره الخبير الألماني (لوثار ادلر Lothar Adler) الذي درس 200 حالة في كتابه (مجانين الآموك) قتل المذكور زوجته واولاده وحتى يقنع نفسه انه قتل كل العشيرة فقد أوقد النيران في قريته (مول هاوزن). ويروى عن جنكيزخان ايضا انه كان يأمر بذبح العشيرة كلها أو افناء قبيلة بدون تردد. ولم يحفظه التاريخ بين سلسلة المجانين الآموك بل الفاتحين العظام. وهو ليس الوحيد في قائمة العقلاء المجانين.

ومن الغريب ان اكثر من يمارس القتل الجماعي هم طواغيت العالم الثالث ولكنهم يعبدون من دون الله ويعتبرون قديسين تزار اضرحتهم أو ابطالا يدعى لهم على رؤوس المنابر وتسك العملة بصورتهم البهية. و(الصنف الثالث) هم ممن يعانون من (اضطراب الشخصية). يمتاز احدهم بشدة التعلق بأمه ويميل الى بناء عالم مثالي يزداد انفكاكا عن الواقع مع الوقت. وقصة (شتاين هويزر) تدخل تحت هذا التقسيم فقد كان شابا عاديا ولم يعرف عنه العدوانية. ويعكف اليوم على حادثته مجموعة من المتخصصين في الامراض النفسية والطب الجنائي وعلماء النفس والتربويين. والمعلومات الأولى التي جاءت عن تربته النفسية وخلفية الطفولة لم تظهر سوى ان الشاب بعد سن المراهقة بدأ يدخل في حالة انعزال اكثر وصمت يزداد اطباقا. وبدأ العيش في عالم خاص به يتكون من غرفة تضم «كمبيوترا وتلفزيونا وفيديو». لم يكن له اصدقاء ولا يختلط بالناس كثيرا وصديقته الوحيدة كانت القطة (سوزي). كان يسمع الموسيقى الصاخبة ويكرر معهم: ما الناس إلا قمامة. كان يرى افلام الرعب ويستطيبها ومناظر القتل الجماعي فيتمتع بها. واكثر ما كان يستهويه ذلك الرجل المعتمر قناعا يغطي شخصيته ويحمل سلاحا ثقيلا ويقتل اعداءه على نحو جماعي بدون رحمة. وبشغفه بالكمبيوتر انقطع عن الدراسة اكثر وفي فترة الاشهر الستة الاخيرة لم يعد يداوم على المدرسة، ولم يكن يعرف ابواه شيئا بسبب الكذب عليهما بما فيها تزوير علامات الامتحانات وشهادات المدرسة. انها كما نرى جريمة المجتمع والثقافة من جانب ولكن لا احد يشير باصبعه الى ذلك.

يمتاز مريض القتل الجماعي الآموك بست صفات: انه وسطيا رجل في حدود 35 سنة. والاقرب ان يكون متعلما وبقدر ثقافته يكون بطشه. وعادة يقع في ظروف الحادثة تحت انهيار نفسي من البطالة على الرغم من كفاءته المهنية. ويمتاز بأنه خامل جنسيا أو خجول لا يعرف الحب أو الجنس. وفي النهاية مستعد للقتل بسرعة واعصاب باردة وبقسوة الحديد وفي العادة يكون قد انتقى سلاحه واستعد ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل. ويمارسه على شكل طقوس مثل لبس القناع الذي يحمل عدة معان: تحول الانسان الى آلة، والمحافظة على مسافة بينه وبين الآخرين، وليس آخرها اثارة الرعب. وفي النهاية ينتحر وبقدر عدد الجثث يكون ميله للانتحار.

يقول الخبير الألماني آدلر انها حالة تشبه الخراج الذي يزداد امتلاء بالقيح حتى تأتي تلك اللحظة التي ينفجر فيها الخراج ولات مناص. وكانت تلك الساعة مع شتاين هويزر يوم 26 ابريل عام 2002.

وفي مدينة عربية انفجرت احداث العنف فهربت نسوة البناية الى القبو واحتشدن في زاوية فدخل رجل مسلح من القوات الخاصة عليهن ووجه فوهة الرشاش وبدأ حصد الارواح فأسرعت احدى الامهات وخبأت ابنتها تحتها واستقبلت الرصاص. وخلال لحظات تحول المكان الى بركة دم وجثث. نجت الفتاة وخرجت بعد يومين من تحت الاموات. وعانت لفترة طويلة من صدمة نفسية. وهي الشاهدة الوحيدة على الواقعة.

ان هذه القصص لا توردها مجلة الشبيجل الألمانية وليس هناك من يستطيع التحقيق فيها حتى اليوم.

[email protected]