وانطوت الأحزان!!

TT

ليس أسهل على الشخصية العربية من ذرف الدمع مدرارا.. تبكي على مصائبها سريعا، بداية من فقدان احبائها، ومرورا بأشيائها الحميمية، وانتهاءً بأحلامها الموءودة بأرض الواقع المرير. اذا احبت، حاصرت من تحب بمراقبته طوال الوقت، ومحاسبته على هفواته الصغيرة، حتى يجف عوده، ويعاف الحياة، ويموت ببطء، ثم تحمله بذراعيها الى مثواه الاخير، وتدعو بحرقة على من تسبب في فقدانها من تهوى. واذا كرهت، فقدت القدرة على التفكير السليم، والتخطيط الواعي، وتعبر عن انفعالاتها بالتلويح في وجه من تكره حينا، وبالتلفظ بكلمات نابية لا تسمن ولا تغني من جوع.

شخصية مشوشة، لا تملك الجرأة على الوقوف بثبات على قدميها، والتأكيد على حقوقها. وطوال الاحداث الدامية التي مرت على الامة العربية، ما زالت مكانك سر، وردود افعالها واحدة، كأن الأمم الاخرى وحدها القادرة على تطوير نفسها! واسرائيل تعي جيدا تركيبة الشخصية العربية، وتعرف متى تبدأ انفعالاتها والى اي مدى تستمر، ومتى تنتهي. وفي مقالة جميلة مقتضبة للأديب انيس منصور، لخص بدقة نفسية الشعوب وتعاملها تجاه واقعة معينة، وكيف يقوم اليهودي باستغلال الموقف لصالحه، وتقليبه على جميع الاتجاهات، بعكس الانسان العربي الذي يصرخ طالبا من الجميع حل ورطته، ثم يتلهى في شأنه الخاص.

هدأت الضجة داخل المجتمع العربي، وذهب الكل الى بيته، وأخذوا ابناءهم في احضانهم، وتمددوا على سرائرهم، واغمضوا اجفانهم، وناموا قريري الاعين، بعد ان صمتت انفاس شاشات الفضائيات عن بث المسلسل الفلسطيني المأساوي، كأن مهمتها كانت محصورة فقط في حصول كل قناة على السبق الصحافي قبل الاخرى! ونفض الجميع ايديهم، وعادت اغاني الآهات وبرامج المسابقات ومقابلات الفنانين الى سابق عهدها، وطفت على السطح عبارة «عفا الله عما سلف».

والمثير للدهشة انه في الوقت الذي ترتفع فيه شعارات «الطبطبة»، ومطالبة الشعوب العربية بأن تعيش بذاكرة معطوبة، تستمر اسرائيل في العزف على قيثارة ماضيها، وتعاير اوروبا على ما اقترفته في اليهود بالأمس، وتذكر الغادي والرائح بضحايا الهولوكوست، كأنها الشعب الوحيد الذي تجرع مرارة الألم، رغم ان كل شعوب الارض لعق اجدادها مرارة الاحزان، لكن خوف اسرائيل من العودة الى ارض الشتات، واحساسها الدائم بأنها قامت على وطن مسروق، جعلها تسعى جاهدة لخلق كذبة تاريخية قدمتها لأجيالها جيلا بعد جيل حتى اصبحت مع مرور الوقت يقينا داخليا.

العرب يفعلون العكس، يريدون اهالة التراب على الحقائق، وتغذية الاجيال على نبتة الوهم، من خلال تقبل واقع مخذول ليست له جذور حقيقية. نرى سوء الطالع في الحال التي آلت اليها الجامعة العربية، حيث اقيمت الصلاة على روحها غيابيا، بالرغم من محاولة امينها العام عمرو موسى المعروف بشجاعته ونزاهته المعهودة، حقن وريدها المهترئ، لكن الثقوب الكثيرة التي تنتشر في الثوب العربي افشلت محاولاته الاصلاحية، وطال الهم الجميع، ولحقت منظمة الامم المتحدة بقطار الخيبة، من خلال خضوع امينها العام كوفي عنان للضغوط الامريكية والاسرائيلية في الغاء لجنة تقصي الحقائق عن مجزرة جنين، والاكتفاء بارسال منظمة الاطباء الامريكية، التي كتبت في تقريرها ان ما حدث على الارض هناك لا يتعدى المعدل الطبيعي لضحايا الحروب، مما يعني دحض الادعاءات التي ترددت في الاوساط العالمية عن حدوث مجازر بشرية.

يظل هناك امل ينبض في عالمنا العربي، فقد قررت هيئة الإعمار العربية اقامة «متحف للذاكرة» في مخيم جنين يحكي بالصور ما حصل هناك، لتظل مشاهده المأساوية عالقة بفكر الاجيال القادمة، وان كنت اتمنى لو اقيم هذا المتحف في بلد اوروبي لتتكشف الحقائق التاريخية امام الرأي العام العالمي. كذلك قام مائة وعشرون فنانا تشكيليا بعمل معرض جماعي يتحدث عن تاريخ الشعب الفلسطيني في ظل سياسة القتل والتشريد التي يمارسها الاسرائيليون في حقه، وبداخلي امل ان يتجاوز النطاق المحلي ويطوف بلوحاته حول العالم. وفي «كان» تم عرض فيلم فلسطيني، يطالب مخرجه بالتعايش السلمي للشعبين على ارض فلسطين. ان هذا يؤكد بأن الفن بأنواعه رسالة حياة، صنع لخدمة الانسانية، والترويج لقضايا الانسان في كل زمان ومكان.

اذا فشلت الشعوب العربية في اقامة علاقة حب وتفاهم دائم بينها وبين حكوماتها، وفشلت كذلك في ان تنعم بالديمقراطية على ارضها، وتسلل العجز الى اعماقها من فشلها في استرداد ارضها المنهوبة لأكثر من خمسين عاما، فلتنظر الى حاضرها القريب، وتتمعن في المستعمرة السابقة تيمور الشرقية، التي حصلت على استقلالها بعد 450 عاما من الاحتلال البرتغالي والاندونيسي وقد مات في فترة الاحتلال الاندونيسي فقط 200 ألف تيموري.

قرون عديدة ذهبت اثناءها اجيال وجاءت اجيال، لكن القيم تتوارث ولا تدفن، والمبادئ تغرس ولا تطمس، والحقوق تظل ثابتة كونها تستمد بقاءها من شرعيتها، واذا كانت الشعوب العربية اضحت لا حول لها ولا قوة، فعلى الاقل يلجأ فنانوها الى عالم الفن، هذا العالم الذي لا يعترف بالحدود، ويعبر الحواجز بسهولة، حتى يسجلوا موقفا ناصعا للتاريخ يغدو نبراسا للاجيال القادمة.

لقد وقفت مطربة اسرائيل الاولى امام الاذاعة الاسرائيلية قائلة ان ما يقوم به الجيش الاسرائيلي اليوم ضد الفلسطينيين يذكرها بما فعله النازيون باليهود، ولأول مرة يعترف يهود بريطانيون بأن ما حدث في جنين ونابلس محرقة نازية. ألا تخجل الحكومات العربية وهي تستمع لهذه الاعترافات، وتدع غيرها يطلب لها العدل، مع هذا تصر على الدوران في ساقية الخنوع، والتفوه بأقوال لا تحل ولا تربط، ملوحة بالعصي في وجه كل من يخالفها، كما كان يفعل أساتذة الكتاتيب القديمة مع التلاميذ الصغار، حين يطلبون منهم بنبرات صارمة ترديد عبارتهم.. الجبن سيد الأخلاق، والويل لمن يسقط كلمة السيادة!!