جان ماري لوبان: الوجه القبيح لليمين الفرنسي المتطرف

TT

بتلك النبرة الخطابية العالية التي عرف بها، والتي اكسبته شهرة واسعة لدى الفرنسيين العاديين بالخصوص، اعلن جان ماري لوبان يوم 5 ايار/ مايو 2002 ان هزيمته امام شيراك تمثل بالنسبة له انتصارا هاما، ذلك انها جعلت الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة التي يتزعمها، القوة السياسية الثانية في فرنسا، بعد ان ظلت على مدى سنوات طويلة قوة شبه مهمشة، منبوذة ومحتقرة من قبل القوى السياسية التقليدية من اهل اليمين كما من اهل اليسار. والحقيقة ان جان ماري لوبان، الذي يتقن الاستفزاز بامتياز، بل هو يعتبره السلاح الانجح في مواجهة خصومه السياسيين وغير السياسيين، لم يبالغ في ما ذهب اليه. فقد كان الملاحظون وعمليات سبر الآراء متيقنين من انه سيخرج من حلبة معركة الانتخابات الرئاسية خلال دورتها الاولى التي جرت يوم 21 ابريل/ نيسان الماضي. غير ان النتيجة كانت مخالفة لمثل هذه التوقعات. فقد سقط ليونيل جوسبان زعيم الاشتراكييين الذي كان شبه متأكد من انه سيطيح بجاك شيراك. ودلت تلك الدورة على ان القوى السياسية الاخرى، خصوصا الحزب الشيوعي الفرنسي، فقدت المكانة التي ظلت تحظى بها على مدى عدة عقود، وباتت تسعى جاهدة لتفادي التهميش والسقوط القاتل. اما الجبهة الوطنية التي شنت ضدها القوى الوطنية واغلب وسائل الاعلام حملة عنيفة ناعتة اياها بـ «العنصرية» وبـ «النازية» وبعدد هائل من النعوت القبيحة الاخرى، فقد تمكنت من ان تكتسح نسبة كبيرة من الناخبين، بمن في ذلك اولئك الذين كانوا من انصار الاشتراكيين والشيوعيين. وأحد هؤلاء صرح مفسرا تصويته للوبان قائلا: «لقد ظللت اصوت للاشتراكيين طوال العقدين الاخيرين غير انهم لم يفعلوا شيئا لفرنسا وللفرنسيين، بل ازدات الاوضاع تعفنا في عهدهم. فقد اصبحت فرنسا شبيهة بافريقيا، هناك اعداد هائلة من الزنوج والعرب والآسيويين. وهم يتناسلون كالارانب ويحصلون على ارقى المهن وعلى افضل الشقق والمنازل. انا صوتّ للوبان لانه يريد ان تكون فرنسا للفرنسيين!».

ومن حق جان ماري لوبان ان يكون فخورا بالنتيجة التي حصل عليها والتي لم يعرف تاريخ فرنسا لها مثيلا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت المسيرة طويلة وشائكة لبلوغ مثل هذا الهدف. فمنذ فترة المراهقة، بدأ جان ماري لوبان يظهر ميولا عنصرية ويمينية متطرفة. ورغم انه كان تلميذا ذكيا وفصيح اللسان، فانه طرد من المعاهد التي انتمى اليها اكثر من مرة بسبب سوء سلوكه. وكان في السادسة عشرة من عمره لما بدأ يظهر نفورا قويا من الشيوعية والشيوعيين.

وقد قال في هذا الشأن: «كنت مراهقا لما كرهت الشيوعية. وسبب ذلك ان بعض الشيوعيين الذين عرفتهم في ذلك الحين كانوا سيئي السلوك، وكانوا متعالين خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية معتقدين انهم الافضل، وانهم هم الذين حرروا فرنسا من الاحتلال النازي. وفي الحقيقة كان هؤلاء الشيوعيون اناسا كسالى، مخفقين في عملهم وكذابين».

وانطلاقا من مطلع الخمسينات سوف يشن جان ماري لوبان معركة ضارية ضد الديجوليين (انصار الجنرال ديجول) وضد الشيوعيين رافعا شعار «فرنسا للفرنسيين». وعندما ارسل الى الجزائر قائدا لفرقة من المظليين، مارس التعذيب الوحشي ضد الوطنيين الجزائريين حتى ان البعض من هؤلاء قضوا بسبب ذلك. وكان في الثامنة والعشرين من عمره لما عين نائبا في البرلمان وفي الحين اشتهر بخطبه الشوفينية النارية، وبقدرته على مواجهة خصومه. ولكن الديجوليين الذين عادوا بقوة الى الساحة السياسية الفرنسية اواخر الخمسينات خففوا من السرعة الجنونية للسياسي الشاب وكبحوا جماحه. فلما ادرك انه عاجز عن مواجهتهم، ترك المجال السياسي ليدير شركة للطباعة والعلاقات العامة serp. اصدر من خلالها بعض الادبيات اليمينية المتطرفة واسطوانات بينها واحدة عن الرايخ الثالث كتب عليها «ان صعود ادولف هتلر والحزب القومي الاشتراكي الى السلطة تميز بحركة جماهيرية قوية، كانت اجمالا حركة شعبية وديمقراطية، ذلك انها انتصرت عقب انتخابات عامة جرت في ظروف عادية وهادئة. وهذه ظروف لم يعد يشير لها أحد».

لكن شيطان السياسة لم يلبث ان استبد بجان ماري لوبان وذلك مطلع السبعينات. فقد اثارته الثورة الطلابية التي اندلعت في ايار/ مايو 1968، وارعبته شعاراتها وتوجهاتها اليسارية والتقدمية. فكان جوابه على ذلك تأسيس الجبهة الوطنية يوم 25 اكتوبر/ تشرين الاول 1972. ومن بين اعضاء هذه الجبهة كان هناك متعاونون مع نظام فيشي، ولانه كان يرغب في كسب المزيد من الانصار يساعدونه على العودة بقوة الى مسرح السياسة الذي هجره على مدى عشرة اعوام، فإنه انتهج خطابا معتدلا. وربما لان آثار ثورة 68 الطلابية كانت لا تزال واضحة للعيان فانه صرح قائلا: «لقد ولدت فقيرا. واجتماعيا انا من اليسار!». ولكن قبل انتخابات عام 1973، عاد الى طروحاته اليمينية المتطرفة، وتهجم على سياسة الهجرة التي تنتهجها الحكومة الفرنسية قائلا: «مثلما نحن ارغمنا الاحزاب على اتخاذ مواقف حول مشاكل الهجرة، فاننا الوحيدون الذين لهم الجرأة لرفع اصواتهم لنقول ما يفكر فيه مواطنو بلدنا ونطالب بايقاف الهجرة التي تسبب لنا كوارث مادية واخلاقية هائلة، وتدنس شرف بلدنا وكرامته. بالاضافة الى هذا كله، هي خطيرة على حياتنا الوطنية». غير ان هذا الخطاب لم يأت لصاحبه بالنتيجة المرتجاة فلم يحصل الا على نسبة 5% من اصوات الناخبين في دائرة باريس. ثم انخفضت هذه النسبة الى 0.74% خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1974، وكان خصومه قد ظنوا بانه لن يخرج من القاع ابدا، لما فاجأهم جان ماري لوبان بالبروز ثانية وذلك في نهاية السبعينات، مستعينا بالارث الذي حصل عليه من عائلته، وايضا بأفول اليسار والطروحات الاشتراكية بصفة عامة. وفي هذه الفترة بدأ خطابه العنصري واليميني المتطرف يزداد وضوحا فقد صرح ذات مرة قائلا: «ان الانفجار السكاني للعالم العربي الاسلامي هو الآن بصدد غزو واحتلال بلادنا».

اما عن الجرائم التي ارتكبها النازيون بحق اليهود خلال الحرب الكونية الثانية فقد صرح قائلا: «انا لا اقول بأن غرف الغاز لم تكن موجودة. وانا نفسي لم استطع ان امتلك مثل هذه الغرف ولم ادرس هذه المسألة بما فيه الكفاية. لكني اعتقد انها نقطة تفصيلية في الحرب الكونية الثانية». وبسبب هذا التصريح، وتصريحات اخرى وقف جان ماري لوبان امام المحاكم اكثر من مرة، غير ان ذلك لم يحد من سلاطة لسانه، ومن غلواء مواقفه المتعصبة.

وشيئا فشيئا بدأ جان ماري لوبان يكتسح فرنسا بمدنها وقراها واريافها. وفي العديد من الدورات الانتخابية حصلت الجبهة الوطنية التي يتزعمها على نسبة تقارب 20%، خصوصا في مدن الجنوب مثل مرسيليا حيث يكثر عدد المهاجرين والاجانب. ومستغلا الازمات الاقتصادية وارتفاع نسب البطالة، تمكن جان ماري لوبان من كسب تأييد انصار الاحزاب التقدمية التقليدية مثل الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي. وفي جميع خطبه كان يخاطب الفرنسيين قائلا: «حاولوا معي انا ولو مرة واحدة. فقد حاولتم مع الآخرين مرات ومرات ولكنكم لم تحصلوا على اية نتيجة».

ومنذ احداث سبتمبر/ أيلول 2001 اكتسب جان ماري لوبان قوة جديدة. فقد ثبت ان عددا من ابناء الجيل الثالث من المهاجرين المغاربة بالخصوص ضالعون في تلك الاحداث، ومنهم من اختار الانتساب الى منظمات اصولية متطرفة هدفها التخريب وتنفيذ عمليات ارهابية تستهدف مصالح فرنسية وغربية. وفي ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، والعديد من المدن الفرنسية الاخرى، تعددت احداث العنف التي يقف وراءها ابناء الجيل الثالث، اولئك الذين يمتلكون الجواز الفرنسي لكنهم يكرهون التأقلم مع الثقافة الفرنسية. وقد استغل جان ماري لوبان مثل هذه الاوضاع ليكسب المزيد من الانصار، وليتحول هو عند نسبة لا بأس بها من الفرنسيين المذعورين والخائفين على مستقبل بلادهم، وعلى انحلال هويتها وسط بحر الهجرة المتلاطم، الى «مخلص». وخلال السنوات الاخيرة الماضية، احاط جان ماري لوبان نفسه بفريق عمل مكون من مثقفين ذوي شهادات عالية واختصاصات رفيعة في مجال الاعلام والعلاقات العامة. وهؤلاء ساعدوه على ان يحول الجبهة الوطنية الى قوة سياسية خطيرة يحسب لها الف حساب. والآن هو يسبح على هواه في «البحيرة الآسنة» للسياسة الفرنسية، على حد تعبير الصحافية الايطالية باربارا شبينالي.