يا تراب الجنوب

TT

تراب الجنوب ـ بالاذن من فيروز وحسن نصر الله ـ ذهب مشغول بقلوب وقنابل وعواطف أغلى من أنفس المعادن اللامعة، والمتفجرة.

ولم يكن جنوب لبنان مشمولا بالقداسات والمزارات لكنه صار قدسا ومزارا، ورمزا حين ارتفعت فيه الحمية الوطنية والكبرياء الانساني الى مرتبة العقائد واختلطت بها، فصار الدفاع عن التراب الوطني محسوبا على قدم المساواة كواجب مقدس في الدين والسياسة وهي حالة ترسخت على الأرض، وانتجت نصرا، وخطت طريقا واضحا لجميع الرافضين للمشروع الصهيوني في المنطقة العربية الذين يتطلعون الى شعارات المقاومة اللبنانية كأسلوب وكمدرسة خلقت معادلة ناجحة للتفاعل الايجابي بين السياسة والدين في أحلك أيام الأمة وأصعب ظروف تخبط مفكريها ومنظريها.

والخطورة التي تقلق الكيان الصهيوني في تلك المعادلة ان سهى بشارة المسيحية اليسارية صاحبة الكتاب المؤثر «مقاومة» التقت في خندق واحد مع مناضلي المقاومة الاسلامية وسجنت مع المناضلات اللبنانيات والفلسطينيات المسلمات في سجن الخيام، وكان هدف التحرير الذي لا يقبل المساومة عند المسيحيين والمسلمين، واليساريين واليمينيين والوسطيين يجمع كل الفئات على «تذهيب» التراب الوطني والارتقاء بالذين يدافعون عنه الى مرتبة ما بعدها مرتبة.

في الكيان الصهيوني هذه الرابطة يصعب ان تتحقق تحت أي ظرف فعلاقة الدين بالدولة ملتبسة، وغير واضحة، وتخضع دائما لنتائج المساومات التي تفرضها المصالح الآنية لعشرات الفرق والاحزاب التي لا تلتزم بالتوراة الا حين يخدم الكتاب المقدس مصلحتها، فلم يكن ديفيد بن غوريون مبالغا ولا مازحا حين قال «ان الجيش الاسرائيلي هو خير مفسر للتوراة» أي ان تحركاته وانتصاراته وهزائمه، هي التي تحدد سقف التفسير التوراتي لكل مرحلة، ولكل منطقة.

وإذا كان أهل الجنوب متجذرين في ترابهم «المشغول بقلوب» من قبل ان يبني الكنعانيون مدينة «يبوس» التي ستتحول لاحقا الى القدس، فإن الصهاينة الذين تسميهم الادبيات السياسية التقليدية «شذاذ الآفاق» لا يجمعهم فعلا أي شعور بالوطنية، ولا أي احساس بالانتماء الى تراب وطني، فغير «العقيدة» التي تم اختزالها الى «المصلحة» لا يوجد ما يربط المولود بأستونيا أو ليتوانيا باليهودي القادم من غواتيمالا أو الارجنتين أو روسيا البيضاء، فهؤلاء وبعضهم صار وزيرا بعد عدة أعوام من هجرته من موطنه الأصلي الى الكيان الصهيوني لا تجمعهم بعد الفكرة العائمة لأرض الميعاد غير مصالح تقاسم المن والسلوى، والسمن والعسل اللذين تحولا الى سم وزقوم بعد الانتفاضة الفلسطينية المباركة التي يتم تسخير أقوى دول العالم وكل الحيل السياسية والدبلوماسية والخطط العسكرية لانهائها لانها حددت الاتجاه الصحيح لبوصلة العمل الوطني الفلسطيني، والعربي.

لقد وجد المغتصبون قبل رحيلهم عن الجنوب المسلمين وفريقا كثيفا من المسيحيين صفا واحدا في مواجهتهم، وفي غزوهم الأخير لمناطق السلطة الفلسطينية ومدنها تكرر المشهد وظهر ان قساوسة كنيسة المهد لا يقلون وطنية وتمسكا بالهوية عن شيوخ المسجد الأقصى وحراسه. وهذا التشابه في الصمود والتلاحم الذي حدث أيام الحروب الصليبية بدأ يقلق المفكرين الاستراتيجيين الصهاينة لمعرفتهم الأكيدة بالشرخ العميق والخطير في تكوين الكيان الصهيوني الذي لا يستطيع ان يكون دولة علمانية بالكامل، ولا دولة دينية بالكامل، ولا يستطيع قبل هذه وتلك ان يوحد شذاذه ومهاجريه حول قواسم مشتركة لهوية وطنية تجمع كل هذه الخلائط تحت رايتها الواحدة الموحدة.

وقبل ان تسأل: لماذا نستذكر هذا الشرخ بالذات في يوم تحرير الجنوب؟ أجيبك بأن قصار النظر لا يرونه جيدا، وقصار النفس يوشكون على نسيانه، والذين أخافهم جبروت الآلة العسكرية الصهيونية في الأشهر الأخيرة ظنوا ان المعركة حسمت الى الأبد، وان الذل والمسكنة قد كتبا علينا منذ مذابح جنين الى يوم الدين.

ان الصراع العربي ـ الصهيوني أعقد من ان يتم اختزاله وتبسيطه الى قوة عسكرية رهيبة لا يمكن ان تهزمها إلا قوة عسكرية مثلها أو أرهب منها، فخلف هذه الواجهة الصارمة والمخيفة اقتصاد منهار، ومجتمع مفكك، ومهاجرون جدد وقدامى يفكرون بالعودة من حيث أتوا، وخلف هذه الواجهة وامامها حاخامات من كل المذاهب والمشارب يختلفون على ستة آلاف قضية لاهوتية وسياسية واجتماعية، ويعجزون جميعا عن الاتفاق على تعريف مقبول لسؤال: من هو اليهودي..؟

وفي مجتمع من هذا النوع ليس من الضروري ان يقع الانهيار غداً أو بعد أسبوع أو شهر، فتلك مسائل لا تحسب بالأشهر، وكما كان عند اليهود الصبر خمسين عاما قبل ان يروا خططهم في المؤتمر السويسري عام 1897 تتحول الى دولة في الشرق الأوسط في مايو (ايار) عام 1948 يفترض بنا ان يكون عندنا نصف ذلك الصبر أو ربعه لنشهد تفجر تلك التناقضات الداخلية التي لا يمكن تأجيلها الى الأبد.

والانتظار لا يعني ان نقف ونتفرج، ففي يوم تحرير الجنوب اللبناني، وما دمنا قد تذكرنا الاساسيات المتحكمة بذلك الصراع الطويل والمعقد، فلنتذكر ايضا احتراما لتراب الجنوب الدرس التاريخي الذي تم تسطيره هناك بالدماء.

ان من يستجيب لمعسول الوعود ينتقل من دوامة الى متاهة، ولا يخيب أبداً من يلجأ لسلاح المقاومة.. هكذا يقول تراب الجنوب في يوم تحريره، لكن هات من يصغي جيدا لذاك التراب.