المتنبي.. ومنتقصوه

TT

«نجس، نرجسي، أناني، منتفخ، وصولي، مقبل اعتاب، ثأري، انتقامي، ضغين، رخيص وعنصري، كريه، حاقد ومهووس، ومعتوه، يحب نفسه دون سواها... الخ».

عفواً فهذا الكلام ليس موجها الى شارون او احد اوغاد اليهود وعتاتهم الذين استمرأوا هذه الايام الدم واللحم العربي واستحلوه.

لا هذا الكلام موجه الى شاعر العروبة العظيم المتنبي.. وصاحب هذه الالفاظ، المنتقاة جدا والمهذبة واللطيفة جدا هو الاستاذ سمير عطا الله في زوايته بجريدة «الشرق الأوسط»! ولن استنكف فأقول: لن ادافع عن المتنبي لأن المتنبي اكبر من الدفاع.. لا بل انني سوف ادافع عن المتبني قدر ما استطيع لأن المتنبي يمثلني ويمثلك ويمثل كل حريص على عروبته وأدبه.

المتنبي هو رمز الشعرية العربية على طول تاريخها فلماذا نصمت ونسكت فنغض الطرف عن اولئك الذين يجدون في شتيمة المتنبي وسيلة للانتقاص والازدراء بموروثنا الادبي.. واذا كان هذا الدفاع جاء متأخرا قليلا فلأن مذابح شارون اذهلتنا عن مذابح الأدب.

والاستاذ سمير عطا الله انقض على ابي الطيب وكال له هذه الشتائم البغيضة بل الوقحة لا لشيء الا لأن احد القراء اتهمه بأنه اسرف في مدح فيكتور هيجو بمناسبة مرور مائتي عام على ميلاده بينما في ادبنا عظماء يستحقون الثناء كالمتنبي.. فكان جوابه ان سخر من القارئ ثم اطلق عيار كلماته المفلوتة على شاعر العرب الأول.

والغريب ان عطا الله الذي اتهم المتنبي بالوصولية وتقبيل الاعتاب.. قد استهل مقالته بمديح لنفسه من الدكتور احمد بن عثمان التويجري الذي منح سمير شهادة تميز في احياء التراث حيث يقول الدكتور التويجري مشيدا بسمير: «ان الطريقة التي تكتب بها عن التراث تزيدنا ولعا به».

ويعقب الاستاذ سمير بقوله: «واعتبرت ذلك شهادة امتياز من رجل علم مفتون بالتراث.. لكنها شهادة حملتها في نفسي» ـ هكذا ـ اوردها..!! ثم اختتم مأدبة الشتم هذه بمديح واعتذار للاستاذ حمد القاضي.

ولسمير عطا الله ان يثني على نفسه وله ان يفخر بما يمنح له من شهادات.. ولكن ليس من حقه ان يتطاول على اذواقنا ولا ان يهين عقولنا بهذه الشتائم، والالفاظ البذيئة.

ولو صدر هذا الكلام عن غير سمير في حق المتنبي فأعتقد ان الدكتور احمد التويجري سيمنح قائله شهادة امتياز في سب الموتى..!! وله ان يعجب بفيكتور هيجو وغيره ولكن ليس على حساب شاعر عظيم اثرى دنيا الادب، بل يعتبر مفخرة الشعر العربي بحجة انه ليس بشاعر انساني.

ولا اقول ان الاستاذ سمير لم يستوعب حالة التاريخ الشعري عند العرب، ولا عند المتنبي.. ولكنه لا يجوز لنا ان نتعامل مع المتنبي تعاملا نخرجه فيه من محيطه الاجتماعي وبيئته السياسية التي وجد فيها وهي بيئة سياسية، بل نفسية مشتتة ومبعثرة..! فالدولة العباسية ليست كما يزعم الاستاذ سمير في احسن حالاتها، بل هي في اسوأ حالاتها انقساما وتشرذما وشتاتا.

ولعل الاستاذ يعيد قراءة تلك الحقبة.. ثم ما هو المفهوم الانساني المطالب به الشاعر في تلك الحقبة..؟ اذ لا يجوز مطلقا ان يقاس عصر المتنبي بالعصر التاسع عشر من ناحية هذا المفهوم، فثقافة ذلك العصر تختلف، وحياته الاجتماعية تختلف. ثم ليس صحيحا ولا منطقيا ان ابا الطيب ليس شاعرا انسانيا، بل ان في كثير من ملامح شعريته مواقف انسانية تدل على نبل الانسان وتساميه والارتقاء بذاته فوق الضعف والدناءات.. وتدل ايضا على تجربة انسانية عظيمة ثرية، مستوعبة للنفس البشرية.. والا فما معنى ان يكون شاعر الحكمة الاول للسان العربي قاطبة، وما معنى ان شعر المتبني لا يزال يردده ويحفظه الكبار والصغار وحتى الشيوخ والعجائز في قراهن..؟

ويعتبر الاستاذ سمير ان ابا الطيب شاعر عنصري مقيت لانه هجا كافورا، ولا اعتقد ان المتنبي هجا كافورا بسبب لون بشرته كما يقول.. بل لأنه دعا المتنبي ومناه ووعده واستقدمه الى مصر، فقدم اليه ومدحه مدحا رائعا فيه وسماه ابا المسك، والاستاذ.. الخ.

وما كان غرض المتبني المال وانما كان غرضه امارة قرية او ضيعة صغيرة كان كافور يمنيه بها ثم يخلفه، بل ان كافورا حجر عليه ومنعه من المسير والتنقل بعد ان رفعه بقصائد المديح الرائعة.. فماذا تريد من المتنبي ان يفعل بعد ذلك..؟ اليس من حق الرجل الذي مورس عليه هذا اللون من الاضطهاد والهوان ان يثأر لنفسه شعرا.

* ولست ادري كيف فات على الاستاذ سمير ان هيجو نفسه مدح وهجا.

فإذا كان المتبني هجا كافورا فإن هيجو مدح لويس نابليون ثم انقلب عليه وقال فيه اقذر الشتائم.

واذا كان المتنبي ادعى النبوة ـ وهي مسألة يشكك المؤرخون فيها ـ فإن الكنيسة الكاثوليكية قد اتهمت هيجو بالجنون لادعاءات حدثت منه.

ويتهم الاستاذ سمير، المتنبي بالعنصرية وينسى ان فيكتور هيجو قد سخر بالاجناس في كتابه شرقيات، وبالذات الشعوب العربية والتركية.

ثم ما رأي الاستاذ سمير في رجل تجاوز السبعين من عمره، وهو يطارد الساقطات في شوارع باريس والعاهرات في بيوت الدعارة. وكان يلاحق الخادمة وزوجة الحلاق، بل حتى صديقة ابنه؟! اما مسألة ان شعراء العرب ليسوا شعراء انسانيين وان قصائدهم كلها في المديح.. فيمكن ان يرد على هذا الزعم اي طالب نابه في ثانوية عربية اطلع على بعض هذا التراث كالمعلقات، وشعر الصعاليك، وشعر الحكمة، بل شعر الوجودية ايضا.. فما بالك برجل منح شهادة امتياز في علمه وتمكنه من التراث..؟!

* هناك شيء في هذا المقام لا بد من التنبيه اليه وهو ان الذي يتولى مثل هذه الامور النقدية لا بد ان يكون ملما عارفا بأبسط ادواتها وقواعدها، بينما اورد الاستاذ سمير بيتا واحدا للمتنبي مكسورا مرتين، اما اللغة فحدث ولا حرج. فالمقال لا يخلو من سوءات لغوية ونحوية، الا ان تكون تلك من سيئات التصحيح ومن ثم فعلى الاستاذ الزميل عبد الرحمن الراشد التنبه اليها لئلا يظُن الظّنُ ببعض الكتاب الكبار..!! وبعد فهل هذه الهجمة على رموز الثقافة والابداع العربي وعلى هذا التراث العظيم ومحاولة تحطيمه واحتقاره واستصغاره متماشية مع الحملات الفكرية والسياسية التي تعمل على تجريد امتنا العربية من كل ممتلكاتها التاريخية والادبية والجغرافية، والمتنبي هو أحد هذه العناصر متهم بالعنصرية واللاانسانية والارهاب.. وربما بمعاداة السامية بسبب قوله:

فلا تسمعَّن من الكاشحين *** ولا تعبأنَّ بعجلِ اليهودِ ومن ثم فعلى العالم العربي حذف قصائده من المنهاج الدراسي الجديد الذي سوف تعمل بعض الجهات المستبدة على فرضه علينا..؟

أم أن ذلك كله جاء عرضا ومصادفة..؟