بين الحاكم والمواطن: جون قرنق يعتذر لبونا ملوال

TT

اعتذر الدكتور جون قرنق دي مبيور، رئيس الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، للسيد بونا ملوال المواطن السوداني المعروف، العضو السابق للقيادة العليا للتجمع الوطني الديمقراطي والوزير السابق بالحكومة السودانية تحت حكم الرئيس جعفر نميري، ومحرر غازيتة السودان الديمقراطية التي ظلت تصدر من لندن طوال التسعينات. اعتذر الدكتور قرنق للسيد بونا امام مجلس للحكماء من جنوب السودان حضره أكثر من عشرين من الشخصيات البارزة وعقد طوال يومي 4 و5 مارس (اذار) 2002 بالعاصمة البريطانية لندن.

بونا ملوال مواطن، وان كان مواطنا غير عادي. وجون قرنق حاكم وان كان غير معترف به. انه يدير اراضي اكبر من كثير من الدول، سواء في افريقيا او في غيرها من بلاد العالم. وقد اعتذر الحاكم للمواطن ومن هنا تنبع اهمية هذا الحدث وضرورة وقوفنا عنده لاستخلاص دلالات عامة تفيد وتنمي الوعي الديمقراطي في عالمنا الذي يحبو وتتعثر خطاه على هذا الطريق الطويل العسير.

الخلاف السياسي بين الدكتور قرنق، الذي يؤمن بوحدة السودان على اسس جديدة، وبين السيد بونا ملوال، الذي كان يؤمن بوحدة السودان وصار يدعو لانفصال الجنوب، خلاف معروف للسودانيين من خلال متابعتهم للغازيتة التي كان بونا يتهم قرنق على صفحاتها، وخاصة في اعدادها الاخيرة قبل توقفها، بأنه اختطف حركة التحرر الجنوبية لخدمة اجندة سرية تخصه وحده، ويقول فيها ان اكثر من مليونين من الجنوبيين الذين ماتوا في الحروب المتعددة والمجاعات والاوبئة، لم يموتوا من اجل الوهم المسمى «السودان الجديد» والذي يدعو اليه الدكتور قرنق، بل ماتوا من اجل نيل الاستقلال لجنوب السودان. ومن الواضح ان السيد بونا يثير حجة يستحيل اقامة الدليل عليها لأنها تتعلق بنوايا وتطلعات الموتى، الذين لم يعبروا في كتاب ما عما كانوا يناضلون من اجله، كما ان السيد بونا نفسه ظل مؤمنا بوحدة السودان وداعيا لها، ومتصرفا على اساسها، حتى وقت قريب، اي بعد ان مات هؤلاء الموتى في هذه الحرب اللعينة والمجرمة، واذا كان السيد بونا قد سئل عن الاهداف التي مات هؤلاء من اجلها، قبل ان يتوصل الى موقفه الاخير هذا، فالغالب انه سيعطي اجابة شبيهة بتلك التي يقدمها الدكتور قرنق حاليا، حتى اذا لم يستخدم مصطلح السودان الجديد. واذا كان من حق الاستاذ بونا ان يغير رأيه وموقفه، الا انه ليس من حقه ان يسحب ذلك على ملايين الموتى، ومهما اختلف المرء مع السيد بونا ملوال الا انه لا يمكن ان يصمه بالعمالة او الارتزاق لأنه يدعو إلى مثل تلك الدعوة. ولكن يبدو ان هذا هو بالضبط ما فعلته الحركة الشعبية بقيادة الدكتور قرنق.

كتبت الحركة الشعبية في نشرتها المسماة «آخر الأنباء» Update مقالا بعنوان: «بلسان من ينطق بونا ملوال؟» اتهمته فيه بأنه عميل للحكومات الشمالية منذ الستينات، سواء كانت تلك الحكومات عسكرية او مدنية. وقالت انه تلقى ثمنا لخدماته من نظام الجنرال ابراهيم عبود الذي بعثه لدراسة الصحافة في الولايات المتحدة اوائل الستينات، وانه يعتبر السيد الصادق المهدي مخلصا للجنوب، وان حزب الأمة برئاسة الصادق كان هو الذي يمول الغازيتة. وتمادى المقال ليقول ان بونا صار ناطقا باسم الجبهة الاسلامية الحاكمة ومنظرا لها، وانه يستضيف قادتها في منزله باكسفورد، بينما يتحدث عن تحرير جنوب السودان. ويطرح المقال في نهايته اتهاما غير مباشر، ولكن بايحاءات قوية، ان بونا كان له دور في اغتيال الزعيم السوداني الجنوبي وليام دينق، اواسط الستينات. واذا علمنا ان وليام دينق كان من اصدقاء بونا، ومن اقربائه، وان ابن الزعيم القتيل تزوج مؤخرا كريمة السيد بونا، لاتضح لنا الحجم الكامل للعبوة المسمومة لذلك المقال.

لجأ السيد بونا الى القضاء الكيني ورفع دعوى بإشانة السمعة والكذب الضار ضد الدكتور قرنق وبدأت التحقيقات بالفعل مع الزعيم السوداني. وتدخل الرئيس اوباساجو، رئيس نيجيريا، لاصلاح ذات البين بين الرجلين. ومع قبول بونا بالمصالحة من حيث المبدأ، الا انه اصر على تقاليد مجتمعه في حسم مثل تلك الخلافات، وهي عقد مجلس للحكماء تكون احكامه نهائية وطاعته واجبة، متهما قرنق بأنه خرج على تلك التقاليد التي تنطوي على قيم ديمقراطية راسخة، ونسي ان الزعيم خادم لأهله وليس سيدا عليهم. وقد عقد ذلك المجلس بالفعل، كما اشرنا، ونزل قرنق على احكامه التي طالبته بالاعتذار وسحب المقال ونشر ذلك في اول عدد من اعداد النشرة المذكورة.

جاء النفي مباشرا ومطلقا، ولا ظل فيه لأي التواء او التفاف، في العدد الذي صدر في نفس اليوم، 5 مارس:

«نود ان نعلن ان ذلك المقال كان منافيا للحقيقة في كل وجوهها. ولذلك نعلن سحبنا ونفينا له جملة وتفصيلا ونعتذر للسيد بونا ملوال عن اي اذى، او هزؤ، او احتقار او مساس بالكرامة، لحقه على اي مستوى من المستويات من جراء نشر ذلك المقال. ونلتمس من قرائنا ومن الجمهور بصورة عامة ان يأخذوا علما بهذا النفي والاعتذار».

كتب المقال تحت التأثير المباشر لعنجهية القوة والسلطة، ومغريات الاستهانة بالمواطن العادي الذي لا قبل له بمواجهة جيش، ولذلك اختتم بهذا التساؤل: «من هو هذا البونا ملوال الذي صار شوكة في لحمنا؟»، ولكنه سحب تحت تأثير قوة اكبر من جبروت كل الجيوش وهي قوة الحق، وقداسة القانون، وحرمة المواطن وحقوقه وحصانته ضد انفلاتات السلطة وخبث الاكذوبة.

لم يكن قرنق مستوفيا لمقتضيات الزعامة عندما اوحى بكتابة ذلك المقال او قبل بنشره، ولكنه كان زعيما حقيقيا عندما قدم ذلك الاعتذار ونفى ذلك النفي وقبل تلك المصالحة. لأنه عندما اعتذر التمس القوة في ذاته وليس في جيشه او اتباعه. وعندما نزل عند حكم الحكماء، وصغر امام الحقيقة، فإنما كبر في عيوننا جميعا، وخطا خطوة تبدو صغيرة في حياة الناس العاديين الذين يعتذرون لبعضهم بعضاً كل يوم من دون ان يقيموا الدنيا أو يقعدوها. فالناس العاديون لا تحول بينهم وبين رؤية اخطائهم الظلال الكثيفة للأدوات المتضخمة. ولكنها خطوة جبارة بالنسبة لأغلب زعمائنا الذين لا يستطيعون مقاومة اغراءات العصمة المدعاة او لا يستطيعون الخروج من اسرها وكأنها سجن اقاموه لانفسهم واصبحوا عاجزين عن تسلق اسواره العالية، بل وزين لهم البقاء داخله حارقو البخور وبائعو الكلام ومصممو الثياب الوهمية. وهي خطوة جبارة لاعتبار آخر لا يقل اهمية، هو ضرورة مواجهة الحركة الشعبية لتحرير السودان لمنتقديها ومعارضيها السياسيين، بالحجة والبرهان والحوار، وليس باطلاق الكلمات كما يطلق الرصاص. وحينها ستكون الحركة الشعبية قد ساهمت بصورة ايجابية في ترقية ممارساتنا وممارساتها الديمقراطية، واقتربت بالمثال الحي، وليس بالشعارات وحدها، من الجوهر العميق للسودان الجديد. فالسودان، أو غيره من البلدان، لا يكون جديدا ولا عادلا ولا جديرا باهله، الا عن طريق الديمقراطية. والحركة الشعبية، مدعوة للسير في هذا الطريق، وجديرة بالسير فيه بقيادة الدكتور قرنق، القادر على الاعتذار وعلى النقد الذاتي.

ويبقى من المهم ان يقع النقد الذاتي على الآذان الصحيحة، فلا يكون حبلا يشنق به صاحبه، ولا يكون حجرا يقذفه مدعون آخرون للعصمة، يزعمون انهم بلا خطايا.

* كاتب سوداني