حق الرسول محمد على البشرية كلها

TT

دفاع عن الصدًّيقة مريم
من الشكلية الفقهية، أو من الجفاف الفقهي، أن يقال: إن الصلاة على النبي واجبة في العمر مرة واحدة: «وفرْض عليه ان يأتي بها مرة في دهره»!!.. فالمسلم يحب الرسول ويصلي عليه كلما استشعر نعمة التوحيد، وتذوق معنى العبادة، وتلا القرآن، ورفع رأسه بين الناس حرا عزيزا، وجّدَّ في العمل الصالح، وأحسن الى الخلق، والتزم منهج الاعتدال في التفكير والقول والفعل والسلوك.. ففي هذه الاحوال كلها يملأ المسلم فؤاده وفمه بالصلاة على النبي الذي هداه الى ذلك كله.

والحقيقة: ان البشرية كلها مدينة لهذا النبي الطيب الجليل، فهو الذي انتقل بها النقلة الكبرى باعلاء قيمة العقل.. وتفجير طاقات التفكير والنظر.. وتحرير الارادة والضمير من اغلال الوثنية والاستبداد.. وارساء معايير المساواة.. وتأصيل التعارف الانساني بين الامم والشعوب كافة.. وإقامة موازين العدل حتى مع الخصول انفسهم.. والاحتفاء والتسامي بقيمة التراث الانساني المشترك.. والدفاع عن الشخصيات الصالحة، من كل الاعراف والبيئات: دفاع حق واعتزاز وسماحة.

وهذا المقال كله: مدُّ وبسط للنقطة الاخيرة.

فمن براهين صدق نبينا ـ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ: أنه جاء بدين يدعو الى (الايمان بالحق كله)، بلا تبعيض، ولا استثناء، ولا الغاء.

وهذه قضية عقلانية منهجية ايضاً. فالحق لذاته لا يتجزأ ولا يتناقض سواء من حيث الجوهر، ومن حيث المصدر.

مريم: نموذجا منذ أيام قال قائل: ان للمسيح عيسى بن مريم (صلى الله عليه وسلم) أخا غير شقيق!! فسارعت مؤسسات دينية اسلامية الى نقض هذه المقولة وردها، اذ انها مقولة تجرح قدسية أو طهارة مريم الصديقة رضي الله عنها التي لم تتزوج قط.

اي مصدر شهد لمريم البتول بالعذرية والطهارة والعصمة من مس الرجال؟

انه القرآن الذي تنزل على محمد.. فلقد أرسى هذا الكتاب المبين (عقيدة يقينية) في مريم الطاهرة: عقيدة تقرر الحق، وتنقض الباطل والزور والبهتان.

ان من خصائص القرآن: الدفاع عن الشخصيات المؤمنة الصالحة، مهما يكن عرقها وأمتها وزمانها ومكانها ونوعها (ذكر أو أنثى).. ولما كانت مريم من هذا النوع الرفيع من الناس، فقد تولى القرآن: تقديمها في أحسن صورة وسياق، والدفاع عنها بالحجة الغالية:

1 ـ فهي المحفوظة من الشيطان: «وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم».

2 ـ وهي المكرمة بكرامة الله: «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب».

3 ـ وهي المصطفاة على نساء العالمين: «وإذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين».

4 ـ وهي القانتة الساجدة الراكعة: «يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين».

5 ـ وهي المبشرة بالمولود العظيم الوجيه: «وإذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين».

6 ـ وهي المرفوع ذكرها في القرآن: «واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا».. ولما كان القرآن يصدق بعضه بعضا، فإن مريم قد ذكرت في القرآن: ذكرا حسنا 34 مرة.

7 ـ وهي آية للعالمين:

أ ـ «وجعلناها وابنها آية للعالمين».

ب ـ «وجعلنا ابن مريم وأمه آية».

8 ـ وهي الصديقة: «وأمه صديقة».

9 ـ وهي العذراء الطاهرة التي لم تتزوج ـ قط ـ ولم يمسسها بشر أبدا: «واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من اهلها مكانا شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً. قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً. قال كذلك قال ربك هو علي هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امراً مقضياً. فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض الى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً. وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا. فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسياً. فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً. يا أخت هارون ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا. فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام علي يوم ولدت ويوم اموت ويوم أبعث حيا».

هذه هي مريم العظيمة كما قدمها القرآن: طاهرة مطهرة، بريئة مبرأة، مصونة معصومة في حملها وولادتها، لم يمسسها بشر. وانما جعل الله حملها وولادتها معجزة من عنده، وهو الغالب على أمره جل ثناؤه.

ومن الحريّ بالانتباه هنا: ان اهل الكتاب يحتجون بالقرآن على طهارة مريم. فقد استشهد كبير من كبراء الكنيسة القبطية في مصر ـ وهو يرد على من زعم ان للمسيح (عليه السلام) أخا غير شقيق ـ استشهد بقول مريم ـ الذي سجله القرآن ـ: «قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا».. ولا شك ان هذا من العقائد المشتركة.

صحيح ان يهودا من اليهود خاضوا في عرض مريم وقالوا فيها قولا شنيعا. بيد ان القرآن اورد مقولتهم القبيحة هذه مورد الكفر: «وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما» ونختم المقال بنقط نحسبها ذات دلالة ملائمة في هذا المقام:

ان قولنا: ان للرسول محمد صلى الله عليه وسلم حقوقا على البشرية كلها يستند الى الحقائق الآتية:

أ ـ ان بعثة النبي كانت تأسيسا نوعيا جديدا للوجود البشري، وهو تأسيس تمثل في احترام العقل، وتعيين المسؤولية الذاتية، والدفع الى تسخير ما في السموات والأرض من اجل الانسان، واعلان وحدة الجنس البشري، الى غير ذلك من المراقي المتنوعة.

ب ـ لو ان عقلاء علموا ان ثمة وثائق تاريخية تنصف تاريخهم الديني وشخصياتهم الصالحة وتدافع عنها، لكان من مقتضى عقلهم: الاحتفاء بهذه الوثائق.. وبناء عليه كان من مقتضى عقولهم: ان يحترموا القرآن، ومن أُنزل عليه، لأن القرآن هو الوثيقة الاعظم التي مجدت الشخصيات الدينية التي يؤمن بها اولئك الغربيون الشانئون للاسلام: رسالة ورسولاً.

ج ـ وعلى التفصيل، فان مريم ـ رضي الله عنها ـ ليست عربية، بيد ان القرآن الذي قوض العنصرية ـ فكرة وممارسة ـ مجّد مريم وزكاها ذلك انه الكتاب الذي يحتفي بالمعايير الحقيقية للتفاضل بين الناس: معايير الايمان الحق.. والعمل الصالح.. والخلق الرفيع.

أليس من حق النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بدين يقدم الانبياء والصديقين السابقين في اجمل صورة.. أليس من حقه: ان تقدره البشرية كلها، وتعرف له مكانته؟