جوع الظهيرة

TT

دخلت الى مكتب شركة العقارات في «الغراند اوتيل» في «كان»، حوالي الحادية عشرة والنصف من احد ايام ايار (مايو). اما لماذا تحديد الوقت بهذه الدقة وكأنني اتحدث عن لحظة اطلاق أبوللو، فمهلا سوف تعرفون. كنت ابحث عن شقة استأجرها في شهر أغسطس (آب) وهو الشهر الذي يتضاعف فيه عدد سكان المدينة نحو خمس مرات، وتتحول فيه «الكراوزيت» الى شارع الخليج العربي في الكويت: شلونك يوبا، مِتى الوصول؟

كان في مكتب العقارات اربع سيدات، فرنسيات طبعا، من اربعة اعمار مختلفة ومتقاربة (45 الى 55) وعلى اقدام كل سيدة كان هناك كلب ابيض صغير، اسمه ميشو. وفي شرفة (علية) المكتب، كان يجلس المدير. وكل مدير في فرنسا المعلم. او السيد. الباترون! اتخذت لنفسي كرسيا امام السيدة القريبة من باب الاستقبال، وكانت على الهاتف، تتحدث ثم تداعب بيدها الاخرى «ميشو». او تزجره: «ميشو، مكانك. ميشو بلا حراك. ميشو بلا ثقل دم».

كانت الساعة قد قاربت11.45 بتوقيت جنوب فرنسا 10.45 بتوقيت غرينتش. واذا السيدة على الهاتف تضع يدها على صدرها وتقول لمحادثها على الطرف الآخر: «آه، الجوع، يقتلني الجوع». ثم اغلقت السماعة وتطلعت في زميلتها الجالسة خلفها قائلة: «ميراي، ألست جائعة انت ايضا؟». وتطلعت ميراي بدورها بالزميلة الجالسة الى جانبها في القطاع الغربي، وقالت: «وانت جاكلين، ألست جائعة ايضا». وظلت الموظفة الرابعة فرانسواز تطبع على الكومبيوتر غير آبهة بما يجري حولها، ثم توقفت فجأة ووضعت يدها على معدتها وقالت في شكوى وتأوه: كم أنا جائعة. كم أنا جائعة. ثم ربتت على كتفي كلبها: «وأنت يا ميشو؟ هل أنت جائع ايضا يا ميشو الصغير».

شعرت بحرج حقيقي. فقد بدا بوضوح انني الوحيد الذي لا يشعر بالجوع في المكان. وربما ايضا «المعلم» الجالس في العلية يحصي ويعد المداخيل. فكل شيء زاهر في المدينة هذا العام، ولا مكان لمستصيف. وفي النهاية بدا ان المدام كوزيت قد تنبهت الى وجودي، فسألتني عن الطلب، فقلت، غرفة او غرفتان في الحارة هنا. ونظرت اليَّ باستغراب تتأملني كأنني وصلت لتوي من عطارد. وسادت فترة صمت. وشعرت بخوف. فمددت يدي الى ميشو واخذت اداعبه. وسألتها كما يفعل الفرنسيون، عن عائلته، والشجرة، وما الى ذلك. ورقت قليلا. ثم قالت لي: «كان قائمة قاعدة وانت تسأل عن غرفة او غرفتين». ثم وضعت يدها على بطنها وتطلعت في زميلتها الاخرى هذه المرة: «ألم تهلكي بعد من الجوع؟». ثم صرخت في المدير الجالس في العلية وقالت بصوت مذبوح: «جان فرنسوا، ما بك صامت، ألا تشعر بالجوع». واطل جان فرنسوا برأسه الصغير وقال ملاطفا: «اهدأن يا بنات، الظهيرة آتية».

ولم يكذبه عز الظهيرة. وتطلعت بي سيدتي وقالت: «سامحني. هل لك ان تعود بعد الغداء»! لحظتها فقط ادركت الخطأ الذي ارتكبته. وتذكرت رائعة جورج اورويل «مشرد في باريس«، التي ينصح فيها بأن لا تطلب من الفرنسي أي شيء قبل الغداء. دائما انتظر الى ما بعد الظهر لأن مزاجه يكون قد هدأ. وعندما عدت بعد الظهر، كانت سيدتي تبتسم. وتم توقيع العقد بين فريقين: الفريق الأول يدندن لأنه لم يعد جائعا، والثاني لأنه كف عن البحث.