الانتخابات الجزائرية: مغامرة محسوبة أم مقامرة خاسرة؟

TT

لم يتردد اسم عبد العزيز بوتفليقة كهاو للشطرنج او كلاعب «للبوكر»، وبالتالي فمن العسير ان يحكم المرء على خلفية تمسكه باجراء الانتخابات التشريعية في موعدها المحدد.

وكنت قد قلت (24 فبراير/ شباط 2002) بأن الرئيس يراهن على اجرائها، وبأن معظم الجزائريين ينظرون لها بحجم كبير من الريبة والتوجس والاحباط، فقد سئموا الانتخابات والاعيبها ونتائجها، حتى ان لم يصل كثيرون اليوم الى قرار نهائي سواء بالتحمس لها او بتجاهلها.

وهذه نقطة بالغة الاهمية يجب ان نتوقف عندها، ونحن نترقب نتيجة صراع القوة Bras de fer بين الرئيس وخصومه.

ولقد قلت بأن من اهم العناصر التي تشجع الجزائريين اليوم على عدم مقاطعة الانتخابات هو موقف تيارات اعلنت عن رفضها المشاركة، ما لم يتم اقصاء الوطنيين والاسلاميين، اي ان تمنع الاغلبية الجماهيرية من ممارسة حقها الذي يكفله الدستور.

واهمية احداث منطقة القبائل تكمن في انها اصبحت اليوم المبرر الرئيسي للذين يطالبون الجماهير بالمقاطعة.

ولقد بدا التصعيد واضحا ضد الرئيس منذ اعلن في مدينة باتنة عن تطوير الوئام المدني الى مصالحة وطنية شاملة، واعتمد على استغلال حادث مؤسف في منطقة القبائل لقي فيه شاب مصرعه على يد جندي في الدرك الوطني، وتعاملت معه السلطة بمزيج من الغباء والتهاون.

هذا الحادث كان عود الثقاب الذي اعدت له ارضية مليئة بالمواد سريعة الاشتعال. فمنذ استرجاع الاستقلال والبعض يغرق الساحة بالاكاذيب عن اضطهاد تعاني منه المنطقة وعن تهميش لشخصياتها، وشيئا فشيئا اصبح هناك شرخ نفسي بين العربي والقبائلي، تجاهلته الجماهير عبر التراب الوطني اعتقادا بأن هذا يحد من خطورته على وحدة الوجدان الوطني، وهو ما كان خطأ يتحمل الجميع، قيادة وقاعدة، مسؤوليته.

ولم يكن سرا ان فرنسا كانت تراهن منذ الاستعمار على استغلال ما اسمته خصوصية قبائلية، لمحاربة التوجه الوطني نحو تحقيق الاستقلال بمعناه الواسع، سياسيا واقتصاديا وعلى وجه الخصوص ثقافيا، وهو ما تواصل بعد 1962، والتفاصيل كثيرة، وارتكزت على مغالطات تخلط بين الامازيغية كلهجات مستعملة، وبينها كانتماء عرقي يعطي تفوقا متميزا متناقضا مع العروبة.

ولعل الذين تابعوا حصة التلفزة الفرنسية مع زيدان لاحظوا كيف ان المنشط ركز على الاصل القبائلي للاعب الكرة المرموق بدون ان يشير مرة واحدة الى جزائريته. وكان تجاهل المشكل جزائريا سببا في تعميق جذوره.

والواقع ان الجزائر المستقلة كانت تخص منطقة القبائل بالرعاية الفائقة، تقديرا لمعاناتها الاجتماعية والاقتصادية قبل الاستقلال. وخصصت لها برنامجا استثنائيا للتنمية على غرار مناطق اخرى فقيرة كالصحراء والهضاب العليا.

وبالاضافة الى برامج التنمية تولى عدد من ابناء المنطقة أهم مناصب البلاد (وأسترجع من الذاكرة اسماء العسكريين قاصدي مرباح للمخابرات العسكرية والهاشمي حجريس وبعده العربي الحسن للمحافظة السياسية (التوجيه المعنوي للجيش) وسعيد آيت مسعودان للقوات الجوية وسليم سعدي للنقل وعبد المجيد اوشيش للخدمات الاجتماعية، والوزراء ياكر للتجارة ومعزوزي للشؤون الاجتماعية ومحروق، وهو مسيحي، للمالية، ومولود قاسم للشؤون الدينية وخروبي للتعليم وآيت مسعودان للصحة وغزالي للاشغال العامة، وغيرهم كثيرون). وكل هذا حق لا يقبل المن ولكنه ايضا لا يحتمل الجحود.

وسنجد ايضا ان كثيرين من كبار مسؤولي الدولة وفي كل المجالات المدنية والعسكرية هم من منطقة القبائل، ومنهم من ينتمي للمنطقة عبر الاجداد، الذين هاجروا الى مناطق متعددة من التراب الوطني وانجبوا فيها ابناء واحفادا، حسبوا على هذه المناطق لأن احدا لم يكن يتوقف عند المعطيات الجهوية.

وتبقى الخصوصية اللغوية، وتكفي الاشارة اليوم الى أن هناك فرقا بين حق البعض في استعمال لهجاتهم المحلية وحقهم في فرضها على من يرفضونها، بدليل رفض اصحاب النزعة البربرية لأي استفتاء حول مطالبهم اللغوية.

ورغم ان الرئيس، ولتهدئة الخواطر، لم يتمسك باجراء الاستفتاء، كما افرج عن الذين ضبطوا متلبسين بعمليات التخريب، لكن ذلك لم يجد نفعا، ورشق طلاب مؤخرا موكبه بالحجارة، وروت الصحف بأن المقبوض عليهم كانوا جميعا من نفس المنطقة.

ويبدو ان تحمل الرئيس مسؤولية اقحام الامازيغية في الدستور بدون استفتاء يعني، عند البعض، انتهاء مهمته.

هذا كله قد يعني بأن انتخابات الخميس تماثل الاستفتاء الذي اجراه الرئيس دوغول في نهاية الستينيات.

ويحتدم الصراع بين الرئيس وبين من يريدون الاطاحة به عن طريق افشال الانتخابات، ويصل الى حد استعمال التهديد، بل والاعتداء على الرافضين للمقاطعة، فيما بدا ترويعا جديدا لا يقل خطورة عن الترويع الذي جندت البلاد عشرية كاملة لاستئصاله. ويتأكد بأن الهدف هو السعي لاقرار مرحلة انتقالية جديدة تواصل الاقليات فيها السيطرة على مقدرات البلاد، خاصة المالية منها، على حساب الاغلبية الساحقة، وانجاح مشروع المجتمع المتناقض مع اهداف الثورة الجزائرية.

ودعاة المقاطعة لا يقدمون اجابة نزيهة على سؤال.. وماذا بعدها؟

وسنفترض هنا ان الرئيس سيقع في الفخ الذي افلت منه في ابريل/ نيسان 1999، وسيصفق الباب وراءه، كما فعل دوغول في نهاية الستينيات، فإن البلاد قد تعرف شغورا سياسيا، حيث ان المؤهل لمهمة الرئاسة المؤقتة طبقا للدستور، اي رئيس مجلس الامة، يعاني من متاعب صحية لا تمكنه من تحمل المسؤولية، ورئاسة المجلس الوطني شاغرة بانتهاء عهدته، كما ان الشخصية الثانية على قائمة المرشحين للمنصب تسلمت أول امس فقط مهامها. علما بان تجربة 1992 استبعدت رئيس المجلس الدستوري، وملء الفراغ الدستوري لا يعني بالضرورة ملء الفراغ السياسي.

وهذا كله يبرر اعتماد فترة انتقالية جديدة، بعد اتهام الرئيس بالانهزامية، وهو ما يسعى له من يمارسون التصعيد، المدروس بعناية على عكس ما يتصور البعض، وعندها تستدعى شخصية معينة لشغل المنصب.

وانصار الوضعية الانتقالية كثيرون ويضمون اقليات فكرية واحزابا مجهرية ورأسمالية طفيلية ومراكز للقوى، وكلها لا تتحمل الجو الديموقراطي الذي تحترم فيه معادلة الحقوق والواجبات ويعطى فيه لكل حجمه الحقيقي على الساحة السياسية. لكن مشكل التشريعات هو انقسام المشاركين فيها الى اتجاهين، الاول يمثل الملتزمين بمشروع المصالحة الوطنية، كما يبدو في خطاب جبهة التحرير الوطني والاتجاهات الاسلامية المتكاملة معها، والذي يطمح الى استعادة السلم والاستقرار لبلاد عاشت نحو عشرية كاملة وضعية طائرة مختطفة، تواطأ فيها الجناة مع بعض المضيفين، بل وبعض الركاب، وهو اتجاه رئيس الجمهورية.

اما الاتجاه الثاني فيستند الى التيار الذي تبنى اسطوانة التنديد بالتيار الوطني العروبي الاسلامي، والذي يرفض المصالحة الوطنية ويشكك في نتائج قانون الوئام المدني، وهو ما عبر عنه الامين العام للتجمع الوطني الديموقراطي، بما يبدو كمحاولة ذكية لوراثة من كان يسمى «القطب الديموقراطي»، الذي يضم الاحزاب المقاطعة.

ولقد حاول بوتفليقة عبر سنوات ثلاث تحقيق وعوده الانتخابية، ولكنه كان اسيرا لتحالفات تكتيكية افقدته حلفاء استراتيجيين، وتناقصت شعبيته يوما بعد يوم لأن هيئة اركانه عجزت عن تصور خريطة البدائل وخطة العمل، مما جعله يعطي تنازلات متتالية، بدت كنوع من «الستربتيز» السياسي.

ويجد مواطنون كثيرون انفسهم اليوم في حيرة كبرى، فهم يعرفون ان المطلوب في نهاية الامر هو رأس بوتفليقة، ويدركون بان عدم المشاركة بأغلبية معقولة قد يعني انهيار امل المصالحة الوطنية، والعودة الى متاهات المرحلة الانتقالية الدامية، وفي الوقت نفسه يحسون بان الرئيس اضاع فرصا كثيرة، ويتساءلون ما اذا كان سيحسن انتهاز الفرصة القادمة.

* وزير الاعلام والثقافة السابق في الجزائر