الاستيطان: مشكلة بحاجة إلى حل إسرائيلي

TT

مستقبل المستوطنات هو الحديث الاكثر سخونة في اسرائيل، اذ اصبح جلياً لمعظم الاسرائيليين ان أي حل سلمي نهائي مع الفلسطينيين سيتطلب حل واجلاء كل او معظم المستوطنات من الضفة الغربية وقطاع غزة.

الحل الدائم يفترض اقامة دولة فلسطينية متكاملة ومتواصلة وليس مثل حل اتفاق اوسلو الذي جزأ وقطع مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني وترك المستوطنات في مكانها. هذه الحقيقة لايمكن انكارها ولكن كل الحكومات الاسرائيلية تجنبت وقف وحل الاستيطان، بما في ذلك الحكومات اليسارية رغم ان ذلك الموقف كان يعقد قلع المستوطنين مع مرور الايام.

في العقد الاول على الاحتلال بعد حرب حزيران 1967 كان الاستيطان مقتصراً على المنطقة الشرقية لوادي الاردن، وذلك اثناء حكومات ليفي اشكول وغولدا مائير واسحاق رابين، الذين لم يسمحوا باستيطان قرب المناطق الفلسطينية المأهولة بكثافة سكانية اذ كانوا يتطلعون لاقامة حكم ذاتي هناك مرتبط بالاردن.

بعد حرب 1973، وخصوصاً اثر تسلم الليكود الحكم في عهد مناحم بيجن من عام 1977 حتى 1983، توسعت سياسة الاستيطان لتعم كل الضفة الغربية. شجعت حركة «غوش ايمونيم» الاستيطان بدوافع دينية اصولية، وبزغت المستوطنات عبر هضاب الضفة الداخلية وقرب الحدود مع اسرائيل ايضاً. انصار غوش ايمونيم يؤمنون بأن الارض المحتلة عام 1967 هي اراض عادت لاصحابها الشرعيين حسب الوعد الالهي لاجدادهم. لم يهتموا بالمشاكل الانية المرتبطة بموقفهم هذا، مثل الواقع الديمغرافي او التعقيدات الامنية او الحقوق السياسية للاخرين، وتصرف انصار غوش ايمونيم لتعقيد فرص أي حكومة اسرائيلية قادمة في التراجع عن الارض ضمن أي حل سياسي.

منذ عام 1984 حُكمت اسرائيل من قبل تحالفات قومية بين اليسار العمالي واليمين الليكودي. في كل مرة كان اتفاق التحالف الحاكم يحتوي فقرة تنص على تجميد كل النشاطات الاستيطانية. لكن منذ عام 1984 وحتى عام 2002 زاد عدد المستوطنين من ثلاثين الفاً الى مائتي الف مستوطن في الضفة والقطاع، ويستوطن مائتا الف غيرهم القدس الشرقية التي لا تعتبرها اسرائيل جزءاً من الضفة الغربية.

تدير شؤون المستوطنات، مثل بقية التجمعات في اسرائيل، مجالس بلدية واخرى اقليمية تقدم الخدمات للسكان وتشرف على استغلال الارض وتضع خطط التطوير. وحسب دراسة حديثة لمنظمة «بتسليم» الاسرائيلية، المعنية بحقوق الانسان، ظهر ان المساحة المأهولة بسكان المستوطنات تعادل اقل من اثنين بالمائة من مساحة الضفة الغربية أي ( 1.7%)، بينما تسيطر المجالس البلدية للمستوطنات الرئيسة على حوالي سبعة في المائة (8، 6%) من الضفة المحتلة. اما المجالس الاقليمية، التي توفر خدمات للمستوطنات الصغيرة النائية والمتفرقة، فانها تدير اكثر من خمسة وثلاثين في المائة من اجمالي الضفة، وهذا يعني ان الاستيطان عملياً يشرف على مساحة اثنين واربعين في المائة من الضفة (9، 41%). (ونسبة مماثلة في قطاع غزة الاكثف سكانياً) بعد عقود من النمو احدثت هذه المستوطنات طبيعة وخارطة جديدة في المنطقة، ولم تعد مواقع متقدمة صغيرة ومعزولة على قمم المرتفعات، ولكنها تملك تجمعات مدنية متطورة لها مدارسها ومراكزها التجارية ومناطقها الصناعية وخدماتها البلدية. هذه الصلابة في التطور تعقد عملية ابعاد كل المستوطنين. الحديث يدور اذاً حول رسم الحدود المستقبلية بين اسرائيل والدولة الفلسطينية بشكل يبقي على اغلبية المستوطنين في اصغر مساحة ممكنة من الارض المحتلة. قد يتطلب ذلك مبادلة مساحة مماثلة من الارض في اسرائيل ـ البعض اقترح توسيع قطاع غزة ـ كتعويض عن مناطق المستوطنات المقتطعة التي ستضم نهائياً الى اسرائيل.

لكن حتى اذا تقبل الطرفان مثل هذا الحل التبادلي للارض قرب الحدود، فان خمسة وثلاثين الى اربعين بالمائة من المستوطنين سيبقون في المناطق الابعد في الضفة، ويجب اخلاؤهم. اليمين واليسار في اسرائيل يخشون اليوم الذي سترسل فيه الحكومة قوات الجيش لابعاد هذه المستوطنات، خصوصاً اذا رفض سكانها النزوح عنها. حتى الوضع الامثل لحل هذه المعضلة قد يؤدي الى عنف واحتجاج اشبه بما حصل في مطلع الثمانينات عند اخلاء مستوطنات شمال سيناء ضمن اتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية. اما السيناريو الاسوأ فقد يؤدي الى مواجهات مسلحة بين الجيش والمستوطنين.

في مطلع العهد الاستيطاني كان المستوطنون ينظرون بأن مدنهم تساهم في توفير الامن لاسرائيل. وهذا ما لا يعتقده او يصدقه احد في اسرائيل الان كون المستوطنات تبدو للجميع كما هي بالفعل، عالة امنية . هناك قضايا بحاجة للتفاوض حولها مع الفلسطينيين سعياً لحلها، لكن المستوطنات التي صنعتها الحكومات الاسرائيلية المتتابعة هي قضية يجب على اسرائيل حلها بنفسها.

الاسرائيليون الذين عاشوا في الضفة الغربية لاكثر من ربع قرن، واولئك الذين ولدوا فيها سوف يعانون بالطبع حتى لو منحتهم الحكومة مساكن في مناطق اخرى. وهذا ثمن عليهم وعلى المجتمع الاسرائيلي دفعه في مقابل التوصل لسلام ثابت.

* الكاتب رئيس قسم السياسة والحكومة في جامعة بن غوريون بالنقب، ومحرر الجريدة الدولية الجيوسياسية. خاص بـ«الشرق الأوسط» ـ خدمة نيويورك تايمز.