آلية دولية لتطبيق المشروع السعودي

TT

يظل المشروع السياسي في إطار نظري، الى ان تجسده آلية محددة قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

لقد استند المشروع السياسي السعودي لمعالجة الصراع العربي ـ الاسرائيلي الى القرار الدولي العادل: انسحاب اسرائيل الى خطوط 1967 في مقابل قيام دولة فلسطينية حيوية، واعتراف سياسي وديبلوماسي عربي باسرائيل، وضمان دولي لأمنها وحدودها.

القرار/ المبدأ الدولي للحل ليس جديدا، الجديد هو المبادرة السعودية الى تبنيه، فلأول مرة تتقدم السعودية من موقع التمويل والمساندة الى دور المشاركة في المواجهة. ولا شك ان بلورة المبادرة في مشروع سياسي للحل قد اضفى مصداقية وجدية على الكلام العربي عن السلام، بحكم ما للقيادة السياسية السعودية من علاقة عربية ودولية وثيقة وفاعلة ومؤثرة.

الإمساك المباشر بقضية الشرق الأوسط ينطوي على مغامرة كبيرة. فقد اظهر تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني طيلة القرن الماضي مدى الخطر في التعامل المباشر مع هذه القضية على المتعاملين من دول وأنظمة وقيادات وأشخاص.

يكفي ان أقول ان الاخفاق ادى الى قلب وزوال عدة انظمة، بل دمر المشروع القومي الوحدوي وقوض النظام الناصري، وعجل بالوفاة المبكرة لجمال عبد الناصر نفسه بعد خيبته والهزيمة العسكرية التي فرضت عليه. وبعد اخفاق عبد الناصر، آثرت الانظمة العربية السلامة، فحرصت على ادارة الصراع بالخدمة اللفظية للأماني، دون اية مبادرة لبلورة مشروع للحل على مستوى قومي.

ولا شك ايضا ان الأمير عبد الله بن عبد العزيز يدرك جسامة المسؤولية والخطر في مبادرته الشجاعة التي وضعت السعودية في صميم الصراع والمواجهة. وهو ينطلق من الإيمان بأن قدر دولة في موقع السعودية العربي والدولي يفرض عليها تحمل المسؤولية تجاه معاناة الفلسطينيين الذين تتفرج عليهم امتهم، فيتملكها الغضب والمرارة ازاء عجز الانظمة عن نجدتهم.

السعودية لديها كم ضخم متراكم من الخبرة في وضع آليات عملية للمشاريع السياسية النظرية. آلية مشروع المصالحة/ التسوية بين مصر والسعودية بعد هزيمة 1967، فرضت على عبد الناصر الانسحاب من اليمن في مقابل اعتراف السعودية بالنظام الجديد هناك، ومشاركتها في تمويل اعادة بناء القوة العسكرية العربية.

في انهاء احتلال العراق للكويت، نجحت السعودية في بلورة اجماع عربي ـ دولي على اخراج صدام بالقوة، بعدما اخفقت على مدى ستة شهور كل الجهود لاقناعه بالانسحاب سلما. ولم يكن النجاح متوفرا للمشروع السعودي لانهاء الحرب الأهلية اللبنانية لولا ميثاق الطائف الذي بلور آلية الحل والسلم.

والآن، ماذا عن آلية تطبيق المشروع السعودي لمعالجة الصراع العربي ـ الاسرائيلي؟

لقد نجحت السعودية، الى الآن، في اكساب مشروعها شرعية عربية عبر قمة بيروت العاصفة، ونجحت في تعديل موقف ادارة بوش المنحاز كليا الى شارون، وتجلى هذا النجاح في تأكيد عزم وتصميم الولايات المتحدة على اقامة الدولة الفلسطينية، ثم نجحت في تواضع صامت في الافراج عن عرفات، ومنع شارون من اجتياح غزة، وربما ايضا نجحت الى حد كبير في تهدئة مخاوف مصر على دورها القومي والفلسطيني في المنطقة، من خلال تأكيد الأمير عبد الله للرئيس مبارك على توأمة الجهدين المصري والسعودي.

هذه الانجازات مهمة للغاية للمشروع السعودي. فقد أدت عمليا الى اخراج المنطقة من منطق حتمية الصراع والحرب، لكن لا يمكن اعتبارها بمثابة آلية تنفيذية للمشروع. والبحث عن هذه الآلية يفرض رؤية خريطة الواقع على الأرض: لقد تمكن شارون من استغلال العمليات الانتحارية، فأعاد احتلال الضفة وغزة، وتقسيمها الى مربعات محاصرة، وتدمير البنى المدنية والأمنية لسلطة الحكم الذاتي، بل انزال الخراب في المدينة الفلسطينية ومخيمها.

وعلى مستوى متلازم مع هذا التدمير، تسعى اسرائيل الى عرقلة المشروع السعودي من خلال اعادة ترتيب الاولويات الفلسطينية. لقد اختفى الحديث عن مفاوضات الانسحاب ليتقدم عليها الحديث عن «ارهاب» عرفات. بعد النجاح السعودي في الافراج عنه، يتم الهاء العرب والفلسطينيين برفع لافتة «اصلاح» عرفات. وفي ظروف انتخابات فلسطينية واسرائيلية محتملة، سيضيع على الأقل ما تبقى من هذا العام دون تقدم حقيقي نحو آلية تفاوضية. بل ها هي ادارة بوش تساهم في بناء «ديمقراطية» عرفات بالبدء بإعادة تجهيز جهازه الأمني والمخابراتي، جهاز القمع المضاد للديمقراطية!.

لقد تمكن شارون بمساعدة ادارة بوش من تطويق عرفات بهالة «الارهاب» ودمغه باللاديمقراطية. ومن يدري ما هي الشروط الجديدة التي سيضعها في المستقبل للتفاوض مع عرفات مسالم وخالي البال من الارهاب ومفعم اصلاحا وديمقراطية؟

في المقابل، ما لم يتم اقناع السعودية وسورية لـ «حماس» و «الجهاد» بوقف العمليات الانتحارية، فالمصارحة الصادقة والمحبة للسعودية تقتضي القول ان المشروع الاصولي في فلسطين والمنطقة سيساهم في تدمير المشروع السعودي، وتمكين اسرائيل من تحويل غزة والضفة الى خرائب شيشنيا وافغانستان.

الأمانة المنصفة تقتضي القول ايضا ان المشروع الانتحاري دمر غطرسة المجتمع الاسرائيلي، واسقط مفهوم الأمن الاسرائيلي القائم على التفوق العسكري، وقرب الاسرائيليين كثيرا، بعد فشل شارون في ضمان أمنهم، الى القبول بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وانهاء الحلم التوراتي والانسحاب من الضفة وغزة، وتفكيك المستوطنات فيهما، ومبادلة القائم منها على الخط الاخضر بأرض مساوية في المساحة.

هذا الكلام ليس حلما من احلام اليقظة. انه كلام الاميركيين والاوروبيين من ساسة ومراقبين وصحافيين الذين زاروا اسرائيل اخيرا، وبينهم اليهودي دنيس روس وسيط كلينتون السابق. لكن المجاهرة العلنية بهذا التراجع تغيب كليا كي لا يستفيد العرب معنويا وتفاوضيا منها. من هنا، فالعمل الانتحاري في عمق المجتمع المدني الاسرائيلي لا بد من ان يتوقف في هذه المرحلة بعدما ادى غرضه النفسي والسياسي، ليسمح لالية عملية بالتقدم لتطبيق المشروع السعودي على أرض الواقع، على أرض الضفة وغزة.

في ظروف اعادة احتلال شارون للضفة وغزة وانهيار بُنى وسلطة الحكم الذاتي، وفي غياب وحدة العمل الوطني الفلسطيني، واصرار المشروع الأصولي الانتحاري على رفض الدولة الفلسطينية واضاعة الوقت والجهد والحياة من اجل الحلم بدولة دينية من النهر الى البحر، في ظل هذه الظروف الصعبة يحتاج المشروع العربي السعودي الى قوة تفرضه على الأرض.

لا بد من فرض الحل. العرب عاجزون عن فرضه عسكريا. لكن حان الوقت لبذل مزيد من الجهد لاقناع اميركا واوروبا بالانتقال من الوساطة والفرجة الى الفرض بإنزال قوات دولية في الضفة وغزة، بل بقبول اقتراح مبعوث الأمم المتحدة تيري رود لارسن بفرض ادارة دولية ريثما يتم الانسحاب ويتحقق الاستقلال.

لقد سارع وجهاء سلطة الحكم الذاتي، لأسباب مفهومة، الى تسفيه لارسن وطي ولفلفة اقتراحه، وفي تسرعهم لم ينتظروا لكي يبادر شارون الى رفضه، لكن الاقتراح في الواقع يشكل نواة لآلية حقيقية تعجل في تطبيق المشروع السعودي، فالادارة الدولية وقواتها المدعومة اميركيا واوروبيا ستضع حكومة اسرائيل أمام مسؤولية تنفيذ القرارات الدولية، تماما كما تم تقويض المشروع الصربي للسيطرة العنصرية على البلقان بالتدخل العسكري الأميركي والأوروبي.

الإدارة الدولية المدعومة بقوات رادعة هي الكفيلة بتسريع عملية التفاوض، ثم بنقل السلطة والأرض الى ادارة فلسطينية يكون عرفات قد أعد بناها المدنية لتشكل نواة الدولة المستقلة.

لا أزعم ولا ادعي ان الالحاح على الادارة الدولية المؤقتة للأراضي المحتلة هو تعبير عما يجول في ذهن وفكر القيادة السياسية السعودية لتطبيق مشروعها السياسي، لكنه مجرد اجتهاد شخصي يساهم مع اجتهادات مماثلة يشغلها هم البحث عن آلية عملية وواقعية لنقل المشروع من اطاره النظري الى أرض الواقع، قبل ان تبدد زخمه المناورات والتشنجات والمواقف المتذبذبة من هنا والمراوغة والتسويف من هناك.

يبقى حديث آخر، لا علاقة للمشروع السعودي به، حديث عن تركيب عجلات ديمقراطية لعربة عرفات وتجهيزها بمؤسسات المجتمع المدني لدولة فلسطينية مختلفة كليا عن شكل ومضمون النظام العربي الحالي.