تحويل شعار الإصلاح إلى حقيقة

TT

رغم السوداوية المشعة من الحديث مع الفلسطينيين والاسرائيليين هذه الايام، فقد اكتشفت اشياء مثيرة في رحلتي الاخيرة للمنطقة، ومنها ان الطرفين يشعران بالتأثر من الاحداث في العشرين شهرا الماضية، وان كليهما قد نالته الخسائر وانهما غاضبان، وكل من الطرفين لديه شكوك في الطرف الاخر، ومع ذلك فقد تطور موقف الطرفين واصبحا يتقبلان تغيرات جذرية.

في اسرائيل هذه الايام يسود التوافق بأن السلام غير ممكن مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ولكن هناك توافقاً اخر مفاجئاً وغير صارخ الا انه يسود عموم الخارطة السياسية الاسرائيلية: عندما يظهر شريك فلسطيني حقيقي ينفذ التزاماته ويعترف بإسرائيل كدولة يهودية، فإن اسرائيل سيكون عليها التراجع عن معظم المناطق المحتلة. افكار الرئيس الاميركي السابق كلينتون او ما يشابهها اصبحت مقبولة من اليسار واليمين الاسرائيليين اذا اثبت الفلسطينيون استعدادهم للعيش بسلام مع اسرائيل، واذا تنازلوا عن العنف والارهاب وحق عودة اللاجئين لاسرائيل.

حتى ممثلون عن المستوطنين اقروا امامي بأن غالبية المستوطنين سيؤيدون افكار الرئيس كلينتون التي ستؤدي لبقاء ثلاثة تجمعات استيطانية في الضفة الغربية وستعطي الفلسطينيين حوالي 97% من الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية. الملاحظ ان المؤسسة السياسية الاسرائيلية لا تشجع او تؤيد هذه الافكار الان، بعكس الجمهور الاسرائيلي الذي يتقدم على السياسيين بوضوح. لكن انضاج هذا التحول يتطلب ظهور شريك فلسطيني موثوق.

ما هي اسباب التغيير في الرؤية الاسرائيلية إذن؟ انها، ببساطة، الرغبة في الاحتفاظ بالهوية اليهودية لاسرائيل. الكل في اسرائيل يعلم انه قبل نهاية هذا العقد سيكون عدد العرب اكثر من اليهود بين البحر والنهر. اسرائيل لا يمكنها الاحتفاظ بالمناطق المحتلة والبقاء في ذات الوقت ديمقراطية ويهودية. كذلك وبعد عشرين شهرا من الانتفاضة تبلورت للاسرائيليين الحقيقة التالية: الفلسطينيون لن يقبلوا بأقل من دولة، ولكن الاصرار الفلسطيني على حق العودة دفع بالاسرائيليين للشكوك اذا ما كان الفلسطينيون على استعداد للحياة مع اسرائيل كدولة يهودية (لان الاصرار على العودة سينسف الهوية اليهودية لاسرائيل حسب رؤية الكاتب ـ المترجم). اذا كان الامر كذلك، فإن اسرائيل ستعيش مع الصراع حتى يتعب الطرف الفلسطيني. لكن اذا تقبل الفلسطينيون اسرائيل يهودية (بالتنازل عن حق العودة) ستدفع اسرائيل الثمن بالتنازل عن معظم الارض المحتلة والتفكير في رسم حدود غير قائمة على النسب المئوية بل مراعية للواقع الديموغرافي (السكاني) للدولتين. لم يكن في السابق مقبولاً حتى مجرد التفكير في هذه الخطوات وخصوصاً لدى اليمين الاسرائيلي. ومن المستغرب ان الجمهور الاسرائيلي الان اكثر تقبلاً من أي وقت مضى لتطلعات الفلسطينيين اذا تأكد ان موقفه هذا لن يؤدي الى نهاية اسرائيل، وبسبب الانتفاضة فانهم غير متأكدين الان.

في الناحية الاخرى، فالطرف الفلسطيني غير متأكد ان اسرائيل تريد التراجع عن الاحتلال وانهاء السيطرة عليه. ولكن هناك تساؤلات تطرح فلسطينياً حول الحكمة من الانتفاضة، اذ يقول الكثيرون، ومنهم نشطاء من حركة فتح، ان الوقت قد حان للاقرار بزوال حق العودة للاجئين الى اسرائيل، ولا يوجد توافق فلسطيني على هذا الرأي للان. لكن هناك توافقاً واضحاً على ان الفلسطينيين يعانون ويعرفون ان قيادتهم لا تتجاوب مع آلامهم ولا تعرف الطريق للخلاص، وهم يعتقدون ان السلطة فاسدة تماماً وتخدم مصلحة عرفات وتؤمن له البقاء في الحكم دون خدمة لمصالح الاخرين.

ليس مستغرباً الان ان عرفات لبس ثوب الاصلاح، فهو تحت ضغوط داخلية، واخرى عربية تعرف ان تغيير الحال وتنشيط التدخل الاميركي في عملية السلام يحتاج لاثبات من عرفات برغبة في انهاء الارهاب وتولي مسؤولياته وتنفيذ التزاماته. وعرفات ايضاً تحت ضغوط دولية من الممولين الذين يرفضون اعادة البناء في الضفة بدون الاصلاح والشفافية في السلطة الفلسطينية.

يمكن للاصلاح ان يكون جسراً بين الوضع الحالي وبين نقطة يرى فيها الاسرائيليون شريكاً فلسطينياً. الاصلاح الذي ادى الى تحديد يوم للانتخابات، واسس لاستقلال القضاء وحكم القانون، وسلطة واحدة، ونهاية للميليشيات المستقلة، وقيام جهاز امن موحد يعمل ضمن قانون ووسائل جلية وليس في حضن عرفات... ذلك كله سيمثل نقطة انطلاق جديد.

من المهم طبعاً تعلم دروس الماضي. سيقوم عرفات بعمل الاقل مما هو مطلوب حتى يواصل التمسك بالسلطات، سيتحدث عن الاصلاح اثناء مناورته للابتعاد عنه. وسيكون من السهل ضياع الفرصة اذا لم يتوفر الضغط الدولي لتأمين تطبيق الاصلاح. والذين سيمولون الاصلاح عليهم وضع تفاصيله ومراقبة تنفيذه ايضاً ووقف الدعم اذا لم ينفذ الاصلاح في المجالين المدني والامني.

الفلسطينيون لا يتطلعون لخلع عرفات وانما يريدون اقامة مؤسسات تحد من تفرده في استغلال السلطة، وهم بحاجة الى مساعدتنا لينجحوا في ذلك. سيحتاجون الى اصرارنا على التنفيذ حتى اثناء تلقيهم المساعدات لبناء المؤسسات. وسيحتاج الفلسطينيون الى استعداد اسرائيل لازالة الحصار عن المناطق لتمكين الحياة الاقتصادية والسياسية من الاستمرار (وهذا سبب اضافي لعمل فلسطيني فعال، كون اسرائيل لن تسمح مجدداً بتهديد مواطنيها عبر حرية الحركة لجيرانها).

رئيس الوزراء ارييل شارون يحبذ تأجيل المفاوضات السياسية حتى تطبيق الاصلاح، وهذا غير واقعي لان الاصلاحات لن تنجز فوراً. فعلى المفاوضات ان تبدأ قريباً، اما مباشرة بين الطرفين او بطرق غير مباشرة عبرنا، ولكنها لن تثمر حتى يثبت الفلسطينيون ان دولتهم المنشودة ستكون دولة مسؤولة.

*الكاتب كان مديرا للتخطيط السياسي في الخارجية الاميركية اثناء ادارة الرئيس بوش الاب، ومبعوث خاص للشرق الاوسط في عهد الرئيس كلينتون. يعمل الان مستشارا لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى.