«الصمود» و«الإصلاح الديمقراطي» .. معركة واحدة

TT

ربما لا يختلف اثنان على أن الفلسطينيين جميعا، ولا سيما سلطتهم، هم الآن في مأزق تاريخي لا يمكن الخروج منه الا بتضحيات جسام، فما الذي يمكن وينبغي لهم عمله من أجل الخروج فعلا؟

اجابة هذا السؤال هي ذاتها اجابة أسئلة مهمة أخرى، من قبيل: ما هي احتياجاتهم الفعلية الأساسية في الوقت الحاضر؟ ما هي مصالحهم الواقعية، لا الوهمية، الكبرى؟ ما هو الهدف النهائي، الذي يسعون الى تحقيقه؟ ما هي الوسائل والامكانات المتاحة لهم؟

لا ننكر، ولا يمكن انكار، أنهم، يعيشون، الآن، تحت وطأة ظروف نفسية تخلق الحاجة الى الثأر والانتقام. ويعود الى السفاح شارون الفضل في خلق هذه الحاجة لديهم، فضحايا مجازره هم من البشر لا من الأغنام، ولا يستطيع حتى الرئيس عرفات، بكل ما يتمتع به من وزن شعبي، أن يقنع شعبه بضرورة «العقلنة السياسية» لهذه الحاجة، فشارون نجح، عبر المجازر وجرائم الحرب التي ارتكبها، في تحييد تأثير الرئيس عرفات على شعبه في هذا الأمر على وجه الخصوص. ويحتاج الفلسطينيون، للاسباب نفسها أيضا، الى رؤية مشاهد الذعر والهلع في شوارع المدن الاسرائيلية، والى أن يؤكدوا للاسرائيليين أن سياجهم الأمني، المعزز بالنتائج الميدانية لحرب «السور الواقي» لن يجلب اليهم الأمن والأمان.

بهذا الميزان وحسب، يمكن أن نزن الهجمات الأخيرة بالقنابل البشرية التي دانتها السلطة الفلسطينية، تأكيدا لالتزامها نبذ وادانة كل أشكال الارهاب، ولحرصها على درء التهديد الشاروني عن المصالح العليا للفلسطينيين.

أمّا اذا وضعنا الهجمات تلك في ميزان آخر فسوف نرى لها وزنا مختلفا.. فالهجمات في داخل المدن الاسرائيلية كان يمكن أن تعود بالنفع السياسي، أو التفاوضي، على الفلسطينيين لو أن عواقبها كانت من النمط، الذي يقنع غالبية الاسرائيليين بأن لا خلاص لهم من كابوسها الا بحل ينصف الفلسطينيين حقوقهم القومية.

الفلسطينيون يقومون بهذه الهجمات في ظرف دولي يسمح لاسرائيل الشارونية بفعل أي شيء وكل شيء، من أجل وقفها والقضاء عليها، وانّ من الخطأ القاتل القول، أو الاعتقاد، بأن ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، فثمة أشياء وأشياء لم يخسرها الفلسطينيون بعد، ويمكن أن يخسروها ما دام شارون يشعر بأن لا قيد على يديه.

لو كان لمثل هذا القيد وجود لأدّت الهجمات الى تقويض شعبية شارون، والى اطاحته، أو ارغامه على نبذ الشارونية، والعودة بالتالي الى طاولة المفاوضات من أجل التوصل الى حل ينصف الفلسطينيين حقوقهم القومية.

انّ الضغوط الجهنمية لنتائج حرب «السور الواقي» الشارونية تكاد تقنع الفلسطينيين بأن «ميزان القوى النسبي»، وليس المطلق، وحسب، ترجح كفته الاسرائيلية رجحانا شبه مطلق، وبأن لا قوة خارجية يمكن، بالتالي، أن تقف الى جانبهم، وتدرأ عن وجودهم القومي الكارثة الشارونية. حتى «توازن الرعب» الذي ظن الفلسطينيون أن في وسعه أن يقيهم شر العسكرية الشارونية، فشل في ردع شارون عن ارتكاب مجزرة مخيم جنين وجرائم حرب في غير منطقة في الضفة الغربية.

الفلسطينيون يستطيعون، الآن، وفي أي وقت، شن هجمات بالقنابل البشرية داخل المدن الاسرائيلية، ولكن التحرر شبه المطلق ليد شارون الحربية من القيود الداخلية والخارجية يشل قدرتهم على مواجهة العواقب، فتصبح الخسارة الاسرائيلية شيئا لا يُذكر بالمقارنة مع الخسارة الفلسطينية.

وهكذا يتضح أن خيار وقف هذه الهجمات لا يخدم مصلحة اسرائيلية، وانما المصالح العليا للشعب الفلسطيني.

في المشهد الفلسطيني، الذي نراه الآن، كم هائل من المتناقضات الواقعية، منها، على سبيل المثال لا الحصر، الصمود الأسطوري والمقاومة البطولية، مع أن مقوماتهما كانت شبه معدومة. كذلك منها هذا الدمار الهائل في البنية التحتية والممتلكات الخاصة، وهذا التدمير الواسع لأجهزة ومؤسسات السلطة، وللمكتسبات السياسية والسيادية، التي أحرزها الفلسطينيون عبر نضالهم القومي المديد وعبر مفاوضات واتفاقات السلام.

أمّا لو نظرنا الى ما ينطوي عليه المشهد من ميول فلسطينية متضادة لوقفنا على ميلين أساسيين، هما: الميل الى الثأر والانتقام عبر الهجمات بالقنابل البشرية، على وجه الخصوص، والميل الى نبذ هذا الشكل من المقاومة بالنظر الى افتقار الفلسطينيين الى القدرة على مقاومة عواقبه.

والراهن، ان القيادة الفلسطينية ستعكف ، من الآن وصاعدا، على استخلاص الدروس والعبر من التجربة السابقة، اذ لا قيمة لأي تجربة انْ لم تُستخلص منها الدروس والعبر، ولكن ما ينبغي للولايات المتحدة ان تدركه جيدا هو ان الخيارات السياسية والاستراتيجية الكبرى للسلطة الفلسطينية لا تتحدد بالوقائع الصعبة والقاسية التي انتجتها عملية «السور الواقي»، وان كان لا بد لها من ان تتأثر بها . هذه الخيارات انما تحددها، في المقام الاول، الحقائق الجوهرية والتاريخية للنزاع ولسبل تسويته. فتجاهل هذه الحقائق العنيدة، ومحاولة تحييد تأثيرها الحاسم بالسياسة الفلسطينية لن يفضيا الا الى تقويض كل جهود السلام ومساعيه. الفلسطينيون، في توقعاتهم ومراهناتهم، يجب أن ينطلقوا، الآن، من الحقائق الواقعة لا من الأوهام، فليس لهم من نصير حقيقي، ظاهر أو كامن، في هذا العالم. انها ليست دعوة الى اليأس والقنوط والاحباط، وانما الى التكيف وفق الحقائق الواقعة، فاذا ما غاب أو ضعف الاحساس بضرورته فان مزيدا من الكوارث والمآسي ستحل.

الفلسطينيون مدعوون، الآن، الى التغيير الديمقراطي الواسع والعميق الذي يحفظ ويعزز وحدتهم القومية وصمودهم السياسي (والتفاوضي).. التغيير الذي يسمح لهم باعادة بناء أجهزة ومؤسسات سلطتهم بقواهم الذاتية.. التغيير الذي يؤدي، في آخر المطاف، الى عدم النيل من الوقفة التاريخية للرئيس عرفات في منتجع كامب ديفيد، حيث تجمعت سحب الحرب عليه وعلى الفلسطينيين.

هذا التغيير المطلوب بقوة، قد يبدو، في توقيت الدعوة اليه، متعارضا و«تعزيز الصمود السياسي». بيد أن وجهة النظر هذه تبررها مخاوف لا مبرر واقعيا لها، ويمكن أن تؤول، في الممارسة، أي في اعاقة حدوث التغيير، الى النيل من قوة الصمود السياسي للفلسطينيين، فهذا الصمود يمكن ويجب أن يتعزز عبر التغيير، الذي تصنعه «الديمقراطية»، التي تشتد الحاجة اليها ـ بخلاف ما يُظن ـ في وقت الأزمة والضيق والشدة.

أمّا شارون فقد شرع يتحدث، الآن، عن ضرورة «الاصلاح الديمقراطي» للسلطة الفلسطينية، الذي دون تحقيقه لن يجلس الى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين للبحث في كيفية ارساء «السلام الديمقراطي». نعلم أن شارون هو آخر شخص يمكن أن يصدّق ادعاؤه بالحرص على الاصلاح الديمقراطي للسلطة الفلسطينية، ومع ذلك يستطيع شارون ان يشن حربا جديدة على الفلسطينيين بدعوى أن سلطتهم قصّرت، هذه المرة، في الاصلاح الديمقراطي، تقصيرها السابق في مكافحة الارهاب.

ونعلم، أيضا، أن شارون لا يملك من الحماقة ما يسوّل له الاعتقاد بأن هذا الاصلاح الديمقراطي يمكن أن يفضي الى بروز غالبية ديمقراطية فلسطينية تؤيد الحلول النهائية للمشكلات الكبرى ولا سيما مشكلتي «القدس الشرقية» و«اللاجئين»، وفق الشروط الشارونية.

ونحسب أن الفلسطينيين يمكنهم، وينبغي لهم اغتنام هذه «الفرصة الديمقراطية» الشارونية لدعوة المجتمع الدولي لان يشرف بنفسه على اجراء انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة في الضفة الغربية وقطاع غزة.. انتخابات رئاسية ونيابية في آن، فالاصلاح الديمقراطي للسلطة الفلسطينية لا معنى له اذا لم يكن ثمرة لمثل هذه الانتخابات، التي لا معنى لها هي أيضا، اذا لم تقترن، مثلما هي الحال في المجتمعات وأنظمة الحكم الديمقراطية العريقة، بضمان الحقوق والحريات الديمقراطية كافة، فالثمار الديمقراطية هي جزء من شجرة لها غصون وفروع وجذع وأوراق وجذور.

* كاتب فلسطيني