الاعتدال وحادثة جربة

TT

انزاح الضباب الذي غلّف حادثة معبد جربة اليهودي خلال الأيام الأولى، واتضح، بما لا يدع أيّ مجال للشك، أنها عملية إرهابية دبّرت بدقّة، وأن منفّذيها، مثلما رجّحت ذلك بعض الأوساط الإعلامية الألمانية، قد يكونون على علاقة بمنظمة «القاعدة» التي يتزعمها أسامة بن لادن. والشيء الذي يمكننا استنتاجه هو أن هذه الحادثة خطيرة على أكثر من مستوى، ليس فقط لأنها تستهدف السياحة التونسية التي تعدّ مورداً أساسياً لاقتصاد البلاد ومنها يعتاش الملايين من التونسيين والتونسيات، وليس لأنها ضارة بعلاقات تونس بأوروبا، وخصوصاً بألمانيا، التي، تحبّ أعداد وفيرة من مواطنيها، قضاء عطلاها فيها، وليس لأن من بين أهدافها الأخرى زعزعة استقرار البلاد، هذا الاستقرار الذي تحلم به العديد من البلدان العربية والافريقية، والذي وفّر لها تنمية اقتصادية واجتماعية لا يستهان بها، وبعث الاطمئنان في قلوب المستثمرين الأجانب التي هي بحاجة إليهم لإنجاح خططها التنموية، وتحديث اقتصادها، وتشغيل العاطلين الذين يتكاثرون يوماً بعد يوم، بما في ذلك خريجو الجامعات، وإنما لأن الهدف الأساسي من هذه العملية، هو إخراج تونس من الخط الذي رسمته لنفسها منذ استقلالها عام 1956، خط التسامح والانفتاح والاعتدال.

فالمعبد اليهودي، الذي استهدفته العملية الإرهابية المذكورة، يعدّ من أقدم المعالم التاريخية. وبالتالي، هو ينتمي إلى التراث التونسي، هذا التراث الذي يتغذى من حضارات ومن ثقافات متنوعة ومتعددة ومختلفة عرفتها البلاد منذ العصور الفينيقية، مروراً بالعصور الرومانية، وحتى قدوم العرب المسلمين. وهذا ما يعده التونسيون فخراً لهم ولبلادهم، ورمزاً تاريخياً هاماً جعلهم، اعتماداً عليه، ميّالين دائماً إلى الانفتاح على الآخر، واحترام ثقافته وحضارته، وأكثر استعداداً من العديد من الشعوب العربية الأخرى للتعايش مع هذا الآخر في ظلّ التفاهم والاحترام المتبادل. وقد عاش اليهود في تونس آلاف السنين وساهموا في تطوير ثقافة البلاد على المستوى الموسيقي والأدبي والفني. وكان لهم حضور قوي وناجح في المجال الصناعي والزراعي والتقني والمالي، وغير ذلك. وباستثناء بعض الأحداث التي لم تكن لها أهمية كبيرة، لم يعرف اليهود التونسيون المظالم التي تعرّض لها اليهود الآخرون في أوروبا، خصوصاً خلال الفترة النازية. وداخل كل مدينة تونسية مثل العاصمة وبنزرت وسوسة وصفاقس وقابس وجربة، كانت لهم أحياء خاصة بهم، وكانوا يلبسون اللباس التقليدي التونسي، ويتقيّدون في حياتهم اليومية بالعديد من التقاليد والعادات التونسية الأصيلة. وبعد الاستقلال، حرص الرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، على طمأنة الجالية اليهودية باعتبارها ركناً أساسياً في إنجاح اقتصاد الدولة الفتية التي أنشأها والتي أرادها أن تكون دولة انفتاح وتسامح. وظلّ هذا الأمر قائماً إلى أن اندلعت حرب حزيران (يونيو) 1967، فانفجر غضب التونسيين بسبب تلك الهزيمة المرة التي لحقت بالجيوش العربية آنذاك. وكانت النتيجة، أن هوجمت أحياء اليهود في العاصمة، ونهبت محلاتهم التجارية، أو هي أحرقت. وقد أخافت هذه الحوادث العنيفة الجالية اليهودية، فاختارت أعداد وفيرة منها الهجرة إلى إسرائيل وفرنسا. وكان ذلك بمثابة الضربة القاسية للاقتصاد التونسي الذي كان يعاني آنذاك من السياسة التي انتهجها أحمد بن صالح وزير الاقتصاد والمالية خلال تلك الفترة، وأيضاً من الجفاف الرهيب الذي ظلّ يضرب البلاد على مدى سنوات طويلة. وبعد تلك المصافحة التاريخية بين اسحاق رابين وياسر عرفات عام 1993، والتي بدت وكأنها مؤشر لسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بدأ عدد كبير من اليهود التونسيين القدماء يتوافدون على تونس سيّاحاً، خصوصاً خلال فترة الصيف لتذكر الماضي الجميل. ولم يكن هذا بالأمر الغريب، فهم ظلوا محافظين في مهاجرهم، خصوصاً في فرنسا، على التقاليد والعادات التونسية، ويتحدثون في ما بينهم باللهجة الدارجة التونسية. حتى أبناؤهم، الذين لم يولدوا في تونس، ورثوا عادات أجدادهم وآبائهم وظلوا متمسكين بها. وقد أعادت عودة اليهود التونسيين القدماء إلى تونس، شيئاً من نضارة انفتاحها القديم الذي عرفت به على مدى تاريخها الطويل، وبدت وكأنها ضربة قاصمة لمظاهر التطرف والتعصب والانغلاق التي برزت خلال الاحداث التي فجرتها هزيمة 67، والتي استفحلت أواخر السبعينات عند ظهور حركة النهضة الأصولية. وتأتي حادثة جربة لتنسف هذا التوجه الانفتاحي الجديد لدى التونسيين، حكاماً ومحكومين. وهذا أمر خطير للغاية، إذ انه يتنافى مع القيم الأساسية النبيلة في التاريخ التونسي، ألا وهي الانفتاح وتقبّل الآخر، وأيضاً الاعتدال. فالتونسيون خلال تاريخهم المعاصر بالخصوص، عرفوا بأنهم يفضلون دائما الحوار على العنف، والاعتدال على التطرف. وقد اتضح هذا جلياً وواضحاً خلال مختلف الفترات التي واجهت فيها تونس الاستعمار الفرنسي، وبعد ذلك أيضاً. فقد اختار جلّ الوطنيين التونسيين الوسائل المشروعة والقانونية لمواجهة قوى الاستعمار، ولم يلجأوا إلى العنف إلا عندما تكون تلك الوسائل قد استنفدت وبطلت صلاحياتها، وانتفت جدواها. وقد جسّد الزعيم الأقوى للحركة الوطنية التونسية، أعني بذلك الحبيب بورقيبة، هذا التوجه الاعتدالي أروع تجسيد. فعلى مدى الثلاثين سنة التي استغرقها نضاله ضد الاحتلال الفرنسي، ظل الحوار وسيلته الأساسية وظل متمسكاً به حتى في الفترات الأشد حلكة وقتامة، فلا يتخلى عنه إلا عندما تكون فرنسا قد سدّت أمامه كل الأبواب، فإذا ما لمس شيئاً من الاعتدال حتى ولو كان قليلاً، سارع بالعودة إلى الحوار، متقدماً إلى الأمام بخطوات بطيئة لكنها ثابتة. وعندما عرضت فرنسا الاستقلال الداخلي على تونس عام 1955، وهو في المنفى، لم يتردد في قبوله. وكان أول شيء فعله عند عودته إلى تونس، هو اصدار أمر للمقاومين الوطنيين المرابطين بالجبال بتسليم أسلحتهم ووضع حدّ للكفاح المسلح الذي كانوا يخوضونه. ورغم أن خصومه، خصوصاً رفيقه في النضال الوطني، صالح بن يوسف، اعتبروا موقفه ذاك تنازلاً عن الحقوق التونسية المشروعة، وانبطاحاً مع العدو، فإن بورقيبة تمكن في أقل من سنة على ذلك، من تحقيق الاستقلال الكامل للبلاد، مقنعاً الشعب التونسي مرة أخرى بأن الاعتدال أنجح وأكثر فائدة من التطرف. وخلال مطلع الستينات، واجهت سياسة بورقيبة المعتدلة محاولة أخرى كانت تستهدف نسفها. فقد سعى ضباط عسكريون كبار متحالفون مع أنصار صالح بن يوسف للإطاحة بالنظام الجديد من خلال انقلاب عسكري، غير أن المحاولة احبطت، وخرج بورقيبة من الامتحان العسير الذي واجهه وهو أكثر قوة وشعبية من ذي قبل. وقد عرفت تونس احداث عنف خطيرة خلال المواجهة بين النظام والمنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، وذلك عام 1978، وأيضاً في العام 1980، عندما داهمت مجموعة مسلحة من المعارضين التونسيين تدعمهم ليبيا مدينة قفصة، غير أن التطرف لم يتمكن بالرغم من ذلك من ان ينتصر على الاعتدال. وكان الأمر كذلك خلال احداث الخبز التي هزّت البلاد مطلع العام 1983، فقد تمكن بورقيبة مرة أخرى من إطفاء الحريق، وان يبقي لتونس وجهها السياسي المعتدل.

وفي السياسة الخارجية، كان الاعتدال هو العنصر الأساسي، فقد تجنب بورقيبة المواجهات العسكرية مع الجيران، خصوصاً مع نظام العقيد معمر القذافي، الذي حاول في أكثر من مناسبة زعزعة استقرار البلاد. ومع الغرب، حرص على ربط علاقات وثيقة، متجنباً الانفعالات والعنتريات التي تميّزت بها سياسات الأنظمة العربية «الثورية» مثل نظام الرئيس جمال عبد الناصر.

ومثل غيرها من البلدان العربية والإسلامية، عرفت تونس موجات من التطرف الأصولي انطلاقاً من السبعينات، وقد بلغ هذا التطرف أوجه مطلع التسعينات، إذ ان أنصار منظمة «النهضة» اعتقدوا وهم منتشون بالانتصارات الكبيرة التي أخذت تحققها «الجبهة الوطنية للانقاذ» الجزائرية، أنهم قادرون هم أيضاً على الوصول إلى السلطة. واستعداداً لذلك، دبّروا في الخفاء العديد من العمليات الإرهابية، بل أخذوا يجمعون الأسلحة والأنصار داخل الأجهزة العسكرية والأمنية بهدف بلوغ هدفهم المنشود، لكنهم منيوا بفشل ذريع ووجدوا أنفسهم مرفوضين ومنبوذين من قبل الأغلبية الساحقة من التونسيين والتونسيات.

وقد دلت العملية الإرهابية الأخيرة، على أن بعض الأصوليين التونسيين الذين غسلت أدمغتهم جيداً في معسكرات «القاعدة» في أفغانستان، وبيشاور، ما زالوا مصرّين على أن العنف والتطرف هما السبيل الأمثل لتحقيق ما يرتجونه وما يأملون في الوصول إليه. وهكذا أثبتوا مرة أخرى أنهم جاهلون بأصول التاريخ التونسي، وبالطبيعة المعتدلة والمتفتحة التي تميز بها التونسيون خلال تاريخهم المعاصر بالخصوص.