بغداد ومعوقات الخيار العسكري الأميركي

TT

موافقة العراق على قرار مجلس الأمن الدولي 1409 لا تدل على حتمية انتظامه النهائي على الخضوع لقرارات ما بعد حملة ديسمبر 98 العسكرية الأميركية «ثعلب الصحراء»، وفي مقدمتها قرار 1284 الذي كان أول نقلة جوهرية في سلسلة قرارات العقوبات المتتالية في تركيزه على عودة (المفتشين الدوليين) الى العراق، ولعل الموافقة العراقية على القرار الأخير تفتح الأبواب أمام حالة تنازع جدي للوصول الى أي من الخيارين العسكري والسياسي على الساحة العراقية، بعد تصاعد ايقاعات الميل الأميركي نحو الخيار الأول، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والحملة العسكرية على افغانستان، وما يرافقها، حالياً، من تهديدات الرئيس بوش للنظام العراقي، ودعوته الى ازاحته واقامة نظام بديل.

ويحاول الرئيس بوش الاستفادة من هذا الهامش السياسي داخل ادارته المتاح في مواجهة ضغوطات التعجيل بالخيار العسكري ضد العراق. لقد غيرت احداث الحادي عشر من سبتمبر من طبيعة الأداء السياسي العراقي، ونقلته من خطاب استفزاز الخصم والمكابرة، والاستخفاف بسياسة واشنطن الى الشعور بأن البقاء داخل دائرة تلك السياسة يعني الوقوع في مصيدة اختطاف السلطة عبر شبح الخيار العسكري. وقد تيقنت القيادة العراقية من جدية ادارة بوش الحالية في سعيها هذه المرة لازاحة النظام السياسي عبر حملة عسكرية واسعة، حتى من دون تحقق الحشد الدولي اللازم.

فلم تعد المقارنة قائمة ما بين دوافع رفض الانسحاب من الكويت، عام 90، وقبول المجابهة العسكرية ضد الحلف الثلاثيني، الذي كان هدفه ازاحة القوات العراقية من الكويت فقط، وما بين رفض القرارات الدولية، حاليا، والذي يتيح الفرصة لتنفيذ العزم الأميركي لتغيير نظام الحكم في العراق، واقامة نظام جديد موال لواشنطن يوفر لها امكانيات الاستحكام الكامل والمباشر على موارد النفط العراقي وفتح ساحة هذا البلد الاستراتيجية المهمة امام القواعد العسكرية الأميركية وتوفير الامكانيات المثالية للأمن الاسرائيلي، بعد انجاز المرحلة المهمة والحساسة من ملف تسوية أزمة الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. ولهذا حاولت بغداد، منذ بدأت اميركا حملتها ضد ما اسمته (بالارهاب) توجيه رسائل نحو المحيطين العربي والدولي، تؤكد على تعاملها مع ملف الأزمة بروحية ايجابية جديدة، حتى وان بدت لواشنطن وللعواصم العربية المعنية انها جزء من تكتيك وقاية الخطر المقبل.

وللكويت بصفة خاصة هواجس ودوافع ورغبات، ما زالت تؤثر على مواقفها، ناتجة عن عمق الجرح الذي خلفه ذلك الاجتياح، وهي تبدو فيها اكثر ميلا لدعم المشروع الأميركي لتغيير السلطة في بغداد، لكي تشاهد رموزها في حال أقسى وامر مما واجهته سلطة الكويت عام 90، وقد اخذت الاشارات العراقية تظهر اكثر وضوحاً في قمة (بيروت) أواخر مارس الماضي، وبصورة خاصة ما بدا من اندفاع عاطفي نحو التشبث بالمفتاح العربي الرئيسي (المملكة العربية السعودية) كمهتم رئيسي بالأزمة العراقية، لاقناعها بتكوين انطباع ايجابي حول سلوك القيادة العراقية الجديد، ومن ثم تبني هذه القناعة املاً في نقلها الى المفتاح الأول (واشنطن) في محاولة لتغيير قرارها في الخيار العسكري تحت مخاوف ما يمكن ان تحدثه تداعيات الحرب الجديدة في العراق من اضطراب واسع في منطقة الخليج بصورة خاصة، والمنطقة العربية بصورة عامة. ولهذا بدا الموقف العراقي الايجابي من القرار (1409) متوقعاً، على الرغم من كونه يشكل جزءاً من الحلول المؤقتة التي وضعها القرار 986/95 (النفط مقابل الغذاء). والأمر المهم هو ما سيقود اليه هذا السلوك من موافقة لاحقة على عودة المفتشين الدوليين، بعد انجاز الحوار السياسي ما بين العراق ومجلس الأمن الدولي، في جولات المباحثات التي لا يتوقع لها ان تقدم مكاسب جدية للعراقيين من ضمن حزمة المطالب العديدة التي قدموها للأمين العام، وخاصة تلك المتعلقة بانتقاص السيادة الوطنية في خطوط عرض الشمال والجنوب، فواشنطن وجهت اشارات واضحة للأمين العام بعدم الاستجابة للمطالب العراقية، وعدم اطالة زمن المباحثات، على الرغم من شعوره، وكذلك روسيا والمملكة العربية السعودية ان تقوية خط الحوار السياسي بين البناية الزرقاء في نيويورك وبغداد، قد يساعد على اضعاف الخط الناري المنطلق من واشنطن وتبريده، وتشجيع العراق على الاندماج في تلبية متطلبات مجلس الأمن الدولي من دون مفاجآت وهزات كالتي حدثت في ديسمبر 98 في عهد الرئيس كلنتون، للوصول الى انفراج جدي في رفع الحصار نهائيا. الحالة التي تواجهها بغداد خلال هذه الأيام والى حين تتخذ قرارا حول عودة المفتشين الدوليين حالة حرجة للغاية، خصوصا اذا لم تكن بغداد حصلت على تطمينات من (الرياض) بوعد من الرئيس بوش بتخليه عن نيته اسقاط نظام الحكم عبر الغزو العسكري. وهي رغبة سعودية جدية حملها ولي العهد السعودي الأمير عبد الله خلال لقاء تكساس، واكدتها تصريحاته الصحفية، قبل وبعد قمة بيروت، في العمل على ابطال، أو تخفيف كارثة الاجتياح العسكري المقبل للعراق، وليست بين ايدينا معلومات تؤكد او تنفي حصول مثل هذا الوعد. واذا كانت للتصريحات الصحفية مدلولات واقعية، فإن تصريحات الرئيس بوش بعد لقاء تكساس لا تدل على تحول في الموقف الاميركي. وحراجة الوضع تأتي من تصاعد ايقاع اشارات متضاربة من مسؤولين داخل اميركا تدعو الى الاستمرار في تنفيذ مشروع الضربة العسكرية، حتى وان وافق العراق على عودة المفتشين، والى جانبها دعوات اميركية واوروبية وعالمية وعربية تدعو العراق الى قبول عودة لجان التفتيش للوقاية من الضربة المقبلة. وبين هذا التناقض والغموض يزيد هاجس المستقبل الغامض من صعوبة اتخاذ القرار السياسي الصائب، بسبب الاحساس بأن ارغام بغداد على قبول المفتشين قد يكون فخاً جديداً، وهذا ما لاحظناه في التصريحات الغامضة والحذرة للمسؤولين العراقيين خلال الأيام الماضية. ولعلها المرة الأولى التي يتم من خلالها مواجهة الحقائق السياسية بطريقة تختلف عن الطريقة السهلة في الرفض المطلق أو القبول المطلق. ولكن بجميع المقاييس وفي مختلف الاحتمالات، لا خيار غير قبول عودة المتفتشين.

ولقياس مؤشرات اللحظة السياسية الأميركية الراهنة تجاه الملف العراقي يمكن ملاحظة:

أولاً: ان ادارة بوش تجاوزت النقاش حول الخيارين العسكري او السياسي الى التزام الخيار العسكري ضد العراق، لكن يدها غير مطلقة، الآن، في تنفيذ هذا الخيار قبل الوصول الى انفراج جدي في ازمة الصراع العربي الاسرائيلي، ومهما يقال حول مشاريع لتسوية هذه الأزمة، الا انها ما زالت في مرحلة بناء الأفكار التي لا يعرف المدى الزمني الذي تستغرقه، إلا اذا حدثت مفاجآت غير محسوبة على الساحة العراقية، تؤدي الى انفتاح لهيب النار وبدء الغزو العسكري الأميركي للعراق.

ثانياً: من بين العقد الرئيسية العديدة المستحكمة في تعامل الأميركان مع ملف الأزمة العراقية، هي سيطرة عادة «المخابرات» في شراء الذمم، وبناء العلاقات مع المعارضين (عناوين واشخاصاً) على اساس (الاجر المدفوع). وانتقل هذا الداء، في السنوات الأربع الأخيرة الى الدوائر السياسية في الخارجية الاميركية، وهو سلوك يحجب عن المعنيين في الملف العراقي من تلك الدوائر، الكثير من حقائق الأزمة العراقية، بسبب شلل قدرة (المدفوعة أجورهم) عن الحوار الجدي الصادق في أزمة البلاد والمخارج الحقيقية لها، وغرقهم في التنافس على المنافع الذاتية تحت غطاء شعارات ازمة العراق الراهنة، و (الأجير) لا يرقى الى مستوى التعبير عن قضايا وطنه ومستقبله السياسي بشجاعة أمام من يمتلك مفاتيح حل تلك الأزمة، كما ان اوراقه محروقة امام الشعب العراقي الذي يمتلك ذاكرة حية. وهذا الخلل في السلوك الأميركي الذي يستهدف تطويق وحرق اوراق السياسيين المعارضين، يبطل او يعرقل او يقلل من فرص امكانيات الحوار الجدي بين واشنطن وغالبية القوى السياسية الفاعلة والسياسيين العراقيين، خصوصاً ممن لا زالوا لا يستسهلون الدخول في دهاليز الدعارة السياسية.

ثالثاً: لا يتوقع ان تخف التعبئة الاعلامية الاميركية نحو الملف العراقي، وقد تتصاعد تبعاً للوقائع المقبلة في عودة المفتشين او رفض دخولهم أو تعويق مهامهم من قبل السلطات العراقية، وستحاول واشنطن تطوير حالة الاجماع داخل مجلس الأمن الدولي الذي تحقق حول القرار 1409 الى تأمين كسب مواقف روسيا، بتقديم اغراءات حقيقية لها للتعويض عن خسائرها المتحققة والمستقبلية في العراق، وكذلك تعميق ولاء كل من باريس وبكين للخطوات الأميركية السياسية والعسكرية اللاحقة ضد العراق، مع الحرص على طمأنة العواصم العربية المعنية بمستقبل العراق. من جانب آخر يتوقع ان تتزايد حمى التنافس الذاتي بين عناوين الجماعات العراقية، خصوصا بين أوساط الحالمين بالسلطة على طريقة (الأفغنة) أي بالحل العسكري الأميركي، وليس الحل الوطني القائم على قواعد مشتركة بين جميع الأطياف السياسية العراقية ورموزها الوطنية، والذي سيظل سيد الخيارات لتحقيق مشروع التغيير السياسي الجدي في نظام الحكم بإزالة الدكتاتورية والحصار، وإرساء قواعد النظام الديمقراطي التعددي في العراق الموحد.

* سفير عراقي سابق [email protected]