رسائل ومفكرات

TT

كتابة المذكرات، او بالاحرى المفكرات، فن خاص من ضروب الكتابة. ما أروع الكاتب الذي يكتب لك عن يوميات، عمرها مائة عام او عشرون او بضعة اسابيع، ولا تزال طازجة مثل كعكة العيد. وما اعمقه. وما اهم تأنيه. وكذلك فن كتابة الرسائل. وتحويل المخاطبة الشخصية الى أدب وتاريخ وصورة، تعود اليها كمرجع لمرحلة او عصر. وكل فن ادبي صعب وكل فن ادبي عمل مستقل، يجيده رجل واحد ذو موهبة واحدة، وقلة يتعددون وتتعدد مواهبهم، طوعهم الشعر والسيرة والرواية والفكر والمقال. يدفعني الى هذه السطور الآن، انني اقرأ منذ حين في يوميات اديب فرنسا اندريه جيد مفكرة تبدأ اوائل القرن الماضي وتستمر حتى نصف الاول. واقابل مع جيد الكبار الذين عرفهم. ثم أراه يصطدم بالجدار: لم اكتب شيئاً هذا النهار. او يبتهج فرحاً في اليوم التالي: ها أنذا اخيراً سيد وقتي. كل ساعة هي ساعة مليئة. وكل ساعة تؤدي الى اخرى. انني اعرف منذ المساء ماذا يترتب عليّ غدا.

ثم نراه نازلاً الى الحي اللاتيني، وقد ترك دراجته خلفه. لماذا ايها المسيو جيد؟ آه، لانني قد لا اجد لها موقفاً آمنا عند حديقة اللوكسمبور. ومرة اخرى نراه مع الكبير الفرنسي الآخر، بول فاليري، في غابة بولونيا. كم هو مزعج هذا المسيو فاليري، لقد ظل يتحدث طوال الوقت ثلاث ساعات وهو يتحدث. وكيف اقول له ان تقديري له وحده يمنعني من ان انفجر في وجهه. كل لحظة اشعر بحاجة الى ان انفجر. وفوق ذلك، الآن، منعني كلامه من ممارسة رياضتي المفضلة في هذه الحديقة: التزلج على الزحافات الآلية (الاحذية ذات العجلات) ثلاث ساعات وهو يتحدث.

تخيلَّ اثنين من اعمدة الهيكل الادبي الفرنسي، في غابة بولونيا، واحدهما يكاد يجن. انه يريد العَدْو على الزحافات الفولاذية وتلك هي المفكرة الشخصية التي تتحول الى موضوع ادبي او تاريخي اشبه بالرواية. او كما ذكرنا، تتحول الى مرجع، في غياب الاشرطة والصور. واعتقد ان رسائل رايتر ماريا ريلكه تحسب في هذا الباب على انها تحفة ادبية. ولم يمارس الادباء العرب هذا النوع من الادب، او ربما لم يكشفوا عنه. ولا اختاره السياسيون.

والاستثناءات قليلة جدا، لعل اشهرها رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، الاديبة الفلسطينية اللبنانية الكبيرة التي كان لها اشهر صالون ادبي في القاهرة، بعد «صالون العقاد». وقد اختلف الى هذا المنتدى رواد ادباء النهضة في مصر، وفي طليعتهم عميد الادب العربي الدكتور طه حسين، وعباس محمود العقاد نفسه الذي هام بصاحبة المنتدى وكتب فيها بعض شعره، لكن هذه الاديبة الرفيعة الخلق ارادت ان يبقى المنتدى فوق كل شبهة. وكانت تدرك ان صغار النفوس يعيشون من مضغ الاشاعات واجترار الافتراء، فاحاطت نفسها بسور من طوب الياسمين. ويقول الناقد والباحث الاستاذ وديع فلسطين، في دراسة عن منتدى مي في «وجهات نظر» ان رقة مي وعذوبتها كانتا حصنها الاول، بالاضافة الى ثقافتها وسعة اطلاعها. وفي هذا الباب ايضاً كتب الزميل الاستاذ عبد الجبار عدوان، مدافعاً عن اديبة فلسطينية كبيرة، والواقع انها ولدت في فلسطين من أب لبناني على الاقل، وربما كانت والدتها ايضا. وقد عملت العائلة في فلسطين قبل الهجرة الى مصر، حيث قدمت القاهرة للاديبة ازهى ايامها وقدمت هي لها انقى المجالس. وماتت مي في مصح عقلي في بيروت، فيما بقي المجانين الذين ادخلوها على قيد الحياة.