التخلف والثقافة .. واليقظة المطلوبة

TT

أصبح هناك شبه اجماع في الدراسات الاجتماعية والتاريخية على أن الثقافة السائدة في مجتمع ما مسؤولة عن نهوض هذا المجتمع او سقوطه وتدهور احواله. ومع ان هناك تحفظات على هذا الرأي، الا ان الثقافة في النهاية عنصر اساسي في تقدم الامم او تخلفها. ومع اني اعتقد ان النظام السياسي والظروف السياسية الملابسة سواء على المستوى المحلي او الاقليمي او العالمي مسؤولة بالدرجة الاولى عن احوال المجتمعات، الا انني اعتبر الثقافة السائدة عنصرا اساسيا في توجه الامم نحو الازدهار او الجمود والتراجع. ومنذ ايام قليلة نشرت جريدة «الجارديان» البريطانية ملخصا لحديث ادلى به ايهود باراك رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق وصف فيه ثقافة المجتمعات العربية بأنها قائمة على الكذب، وبالتالي فان الاتفاقات التي تتم بين اسرائيل والعرب لا يمكن الوثوق بها، وكذلك التصريحات المختلفة التي تصدر عن هؤلاء الزعماء. وبصرف النظر عن الكذبة الكبرى التي قامت عليها الدولة الاسرائيلية نفسها، والتاريخ الهائل للادعاءات والاكاذيب الاسرائيلية التي يراها العالم رأي العين كل يوم، فان هذه الملاحظة يجب الا تمر من دون ان نتوقف لنتأمل مدى صدقها وصوابها. حقا انه من الصعب ان نتناول ملاحظة قالها عدو غارق في الكذب الى اذنيه، لكن علينا ان نعيد النظر في الثقافة السائدة في الكثير من المجتمعات العربية. فمنذ فترة طويلة لم تقم دراسة تحليلية تعالج الموضوع الثقافي بمعناه الواسع وتأثيره على السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي بطبيعة الحال. ولعلنا نستطيع القول ان الثقافة السائدة في مجتمعاتنا ترجع الى القرون الخمسة الماضية، وربما يمكن القول بأنها تشكلت في اطار الدولة العثمانية وتحت تأثير الظروف السياسية والثقافية التي قامت منذ ذلك الوقت. ونحن نعرف اليوم أن «الدولة» تلعب دورا رئيسيا في توجيه المفاهيم الثقافية سواء عن طريق توجيه المؤسسة التعليمية او عن طريق تعاملها مع القوى المثقفة، خاصة في ذلك الزمن الذي كان فيه للدولة طابعها التحكمي والطاغوتي في الكثير من الاحيان. وفي الفترة العثمانية التي امتدت الى حوالي اربعة قرون اهملت اللغة العربية وصارت هناك رطانة سائدة هي خليط ما بين اللغتين التركية والعربية الى جانب الاستنباطات العامية، وكانت اغلب دول المنطقة العربية غارقة في لهجات محلية حتى انه كان يصعب التفاهم بين مواطني الاقطار العربية في الكثير من الاحيان. ومع ان اختلاف اللهجات من الممكن ان يكون داخل البلد الواحد، الا ان الاختلاف كان كبيرا، خاصة عندما انفصلت اللغة المكتوبة عن اللغة الشفهية، وفي ظروف تسود فيها الامية صار من الصعب التفاهم بين الشعوب العربية بعضها والبعض الآخر. واذكر في الستينات، حين كانت حماستنا للوحدة العربية تصل الى درجة الرومانسية، اني رافقت المرحوم الدكتور محمد انيس في زيارة لشقيقه الاكبر المرحوم الدكتور ابراهيم انيس الذي كان عميدا لكلية دار العلوم وكان متخصصا في العلوم اللغوية، ولعله اراد ان يهدئ آنذاك من تلك الحماسة او يقربها من النظر الواقعي او الموضوعي، فقال لنا: انتم تتكلمون عن الوحدة العربية وتتحدثون عن الكثير من الوحدات ومنها وحدة اللغة، لكن دعوني اسمعكم تسجيلات لأحاديث عربية لأعرف الى أي مدى ستفهمونها. وبالفعل ادار جهازا للتسجيل فسمعنا لغة او قل لهجة وراء لهجة فلم نفهم حرفا واحدا.

على أن المسألة لا تتعلق باللغة وحدها، بل بالمفاهيم السائدة بين مجتمعات البدو والحضر. وكما تدهورت اللغة العربية، تدهورت المفاهيم العقلية واحتاجت الكثير من المجتمعات الى ثورة او قل نهضة لمقاومة شيوع الخرافات وعبادة الاضرحة او التوسل بها وتردي الابداعات الثقافية. واليوم من الصعب على القارئ المعاصر ان يقرأ كتاب «بدائع الزهور» لابن اياس بسبب لغته المختلطة وغير الخالصة او النقية، ونفس الشيء ـ وإن كان بدرجة اقل ـ تاريخ الجبرتي الشهير، على الرغم من أن عدة قرون تفصل بينهما. وتدهور اللغة مرتبط بتدهور المفاهيم، مثل الخوف من التفكير في امور الدين، وقد شاع في المجتمعات العربية لعدة قرون ان باب الاجتهاد قد اقفل من زمن وأنه ليس على المعاصرين الا اتباع الاولين. وربما من هذا التاريخ ترسبت فكرة ان العصر الذهبي قديم وأن التدهور سمة من سمات الحياة، وبالتالي فان اي ابتداع يتحقق او يحاوله شخص ما ليس الا بدعة، وبالتالي فهي اثم يدخل صاحبه الى جهنم. والحق ان هذه الرؤية لم تكن مقصورة على المجتمعات العربية او الاسلامية، اذ انها في الواقع كانت تشمل المجتمعات الاوربية في العصور الوسطى، فهي ظاهرة مرتبطة بالتدهور الحضاري والثقافي ودالة عليه، وحين اكتشف الاوربيون ان العصر الذهبي او المدينة الفاضلة كما جرت التسمية، هي شأن رهن بالمستقبل وليس الماضي كان هذا انقلابا خطيرا ادى الى النهضة الاوربية التي ما زالت تتحرك الى الامام منذ خمسمائة عام تقريبا. وظاهرة المراجعة او النقد تعتبر هي الاخرى اكتشافا اوربيا على حد زعم الفيلسوف «كارل بوبر» وأن النقد لم يعرف بمعناه المعاصر الا من فترة التنوير، وكان هذا اكتشافا آخر بالغ الاهمية ولعله المسؤول الاول عن كل المنجزات الحضارية السائدة في الغرب الآن. واكتشاف مفهوم التقدم والنقد لم يكن مجرد هبة او صدفة عفوية بل جاء بواسطة جهاد وعنف احيانا، اذ كانت فكرة الطاعة اساسية في ثقافة العصور الوسطى كما كانت الوصاية العقلية التي تفرضها المؤسسة الدينية على اتباعها ليست فقط فكرة خاطئة بل ذريعة لتسلط قوى المؤسسة الدينية التي كانت في الواقع تستخدمها لتثبيت مواقعها وممارساتها الدنيوية. وفي عالم تسوده الوصاية العقلية او الروحية يصبح النقد ـ مهما تكن درجته ـ هرطقة وكفرا، وقد احتاجت المجتمعات الاوربية المسيحية الى معارك دامية قبل ان يصبح النقد حقا مكفولا ويؤثر تأثيراته المعروفة والتي اوصلتنا الى الانجازات والمفاهيم المعاصرة. وربما كان «النقد» في زمننا هذا هو ابرز ممارسات المجتمعات المتقدمة، فأنت تراه في الاختلافات الحزبية وفي النقد المتبادل بل في مراجعة الكثير من الافكار التي ربما تكون قد صارت من المسلمات، وفي الجرأة على التصدي للنظر في كل المقولات المتداولة. وعلى العكس من ذلك في البلاد العربية تحولت الامور الثقافية بالتدريج من روح الابداع والنقد والتجديد الى الاتباع والخضوع، الى ان فقدنا اللغة العربية اصلا وانقطعت صلتنا بالتراث المنجز في عصور الازدهار. على أن التاريخ يعلمنا ان الدول او المجتمعات التي نشأت فيها حضارات كبرى لا تلبث ان تنهض من جديد وتخترق كل السدود وتقف على قدميها من جديد. وهذا هو ما حدث بالضبط في الكثير من المجتمعات العربية منذ ما نسميه بعصر النهضة الحديث. فعادت اللغة العربية الى رونقها وقامت حركات التصحيح الدينية في اكثر من قطر عربي، وبدأت عودة الى التراث وشيء من النقد او التأويل. ولكن هذه الحركة النهضوية صادفت عقبات عديدة من الداخل ومن الخارج، والحق أن تأسيس المجتمع السياسي النهضوي لم يكد يتحقق منذ قيام هذه النهضة التي يمكن ارجاعها الى بدايات القرن التاسع عشر. ذلك ان هذه الفترة اتسمت بالتوسعات الاوربية الاستعمارية ومرادفاتها التي يعرفها الجميع. ومن المؤكد ان الفضائل ليست مجرد اختيارات حرة، ففضيلة الصدق، مع انها فضيلة يرغب فيها الكائن الانساني بطبيعته وعندما لا يمارس عليه قهر ضدها، الا انها تتحقق وتصبح قاعدة ثقافية بمساعدة ظروف اخرى قد تكون عملية خالصة، مثل التعامل في حركة اقتصاد حرة متشابكة يعتبر فيها الصدق مسألة ضرورية لتتم التعاملات بالسرعة المناسبة والثقة الضرورية، وكلها ظروف متصلة بالارادة الحرة المتولدة عن ممارسات طويلة وحمايات عديدة اخلاقية وقانونية. على ان الكذب من الناحية الاخرى يفرخه الخوف اساسا، الى جانب ضعف المنظومة الاخلاقية السائدة في المجتمع وحركة الاقتصاد الضعيفة التي لا تتطلب قواعد ثابتة للتعامل. وربما كان اخطر ما يخل بهذه القواعد هو الانظمة المتسلطة، فهي في الواقع تهز حرية الارادة وقد تعدمها تماما، ولا يبقى للمتعامل في الحياة سواء من الناحية الاقتصادية او الاجتماعية ـ أيا كان هذا النشاط ـ الا الالتفاف والالتواء، ومن هنا يزدهر الكذب ويصبح اسلوبا سلوكيا سائدا وجزءا من الثقافة السائدة في هذا المجتمع. والواقع ان النهضة العربية والاسلامية لم يكن طريقها سالكا بسبب تراث عهود التخلف التي رسخت لأكثر من خمسة قرون متصلة، وبسبب الظاهرة الاستعمارية، التي مهما تناولناها بشكل موضوعي، كانت مسؤولة عن تعويق حركة التقدم التي قامت في هذه المجتمعات منذ سقوط الدولة العثمانية في الربع الاول من القرن العشرين، بل قبل ذلك بوقت ليس قصيرا حينما بدأت التمردات في بعض الولايات العثمانية والسعي الى التحديث والاستقلال. لهذا السبب اتسمت حركة النهضة العربية بالتقدم والتراجع حسب المصادفات السياسية العديدة التي ظهرت في المنطقة طوال هذه الفترة. وهي ليست في احسن حالاتها الآن. ان الافرازات الضارة في المجتمعات العربية، مثل الكذب ومرادفاته كالنفاق والمجاملات المفتعلة، وثيقة الصلة بالحالة الاقتصادية والاجتماعية، وربما كان الوضع السياسي القائم على التسلط والدعايات الكاذبة هو المسؤول عن الثقافات المتدهورة المنتشرة الآن في الكثير من مجتمعاتنا. فهل آن الاوان لتقوم حركة نقدية قوية تتناول بالنقد كل جوانب حياتنا من دون ان تحدث ارتباكات مدمرة في هذا الجانب او ذاك من جوانب حياتنا؟ وهل السلطات قادرة على التجاوب مع هذه الحركة الحرة والشجاعة؟ الحق، أنه بدون هذه اليقظة النقدية لن تستطيع المجتمعات العربية الخروج من مأزقها الحضاري، والتغلب على التحدي الصهيوني الذي يعرف بشكل جيد نقاط الضعف الاساسية في الثقافة السائدة ويستغلها اسوأ استغلال.