«إعلان روما» أو: قيام «الفيلق الثاني الإمبراطوري»!

TT

من منكم يتذكر الرجل الأصهب؟

لا بد من ان يكون الكثيرون في موسكو قد تذكروه هذا الاسبوع. فلقد خرج بوريس يلتسين من الكرملين بعدما أشهر افلاس الماركسية وهو يحذر من توسيع حلف الاطلسي شرقا. معتبرا ان دخول بولندا والمجر وتشيكيا الى صفوفه يمثل «خطأ تاريخيا».

بعد خمسة أعوام ونيف تقريبا، وقعت روسيا في هذا «الخطأ التاريخي» نفسه. وان كان فلاديمير بوتين لا ينظر الى الامور من الزاوية التي كان يلتسين يعتمدها.

ولتهدئة يلتسين آنذاك قام الامين العام السابق للحلف خافيير سولانا بادارة مفاوضات مع المسؤولين الروس انتهت في أيار (مايو) من عام 1997 بالاتفاق على ترتيب العلاقات بين موسكو وحلف الاطلسي، وتم التوقيع على «وثيقة تأسيسية» بهذا الخصوص هدفها السعي لاقامة علاقات مميزة بين الجانبين.

منذ ذلك التاريخ دخل في قاموس التعريفات المتداولة في سياق السياسة الدولية الاصطلاح الذي يقول: «19 ضد 1»، وكان منشأ هذا الاصطلاح الشعور الروسي بأن اعضاء الحلف الـ 19 يقفون ضد موسكو، لكن ما حصل يوم الثلثاء الماضي في «براتشيا دي ماري» في ايطاليا، قدم ما يمكن اعتباره مضموناً جديداً ومعاكساً لذلك الاصطلاح، حيث بدا الأمر على النحو التالي: «19 ضد 1 = 20».

طبعاً لا يمكن ايجاد تفسير منطقي لمثل هذه النتيجة في علم الحساب. لكن في وسع السياسة ان تقدم اجوبة كثيرة على غرائب كثيرة تتجاوز هذا الأمر.

واذا كانت هذه النتيجة قد بدت بالنسبة الى الكثيرين تتويجاً لجولة جورج بوش الاوروبية التي حملته الى موسكو، حيث وقع مع بوتين اتفاق تخفيض الرؤوس النووية في اميركا وروسيا، فإن الاحتفال بدخول روسيا عضواً وشريكاً في حلف الاطلسي بدا بدوره بمثابة تكريس للمفاوضات الطويلة التي جرت في الاعوام الخمسة الماضية على خلفية السعي الى جعل «الوثيقة التأسيسية» اتفاقاً لاعلان قيام «المجلس المشترك».

وهكذا عندما وقف السكرتير العام للحلف جورج روبرتسون وقرأ «اعلان روما» الذي يرسي العلاقات الجديدة مع روسيا على قاعدة من الشراكة والمساواة، اكتسبت المناسبة فورا بعدها الرمزي المثير. وكان في وسع الكثيرين في اربع رياح الارض ان يصيحوا:

يا للغرابة. كيف يمكن التاريخ ان يعيد نفسه ولو من المنصة الجغرافية عينها؟

فإذا كانت روما في العصر القديم قد شكلت عنواناً بارزاً للدلالة على «السيادة الامبراطورية»، فإن «اعلان روما» اليوم يشكل عنواناً بارزاً لما يمكن اعتباره «سيادة امبراطورية» معاصرة.

وعلى هذا الاساس وبرغم كل ما قيل عن «الشركاء المتساوين» وعن السعي لكي يصبح القرن الجديد «قرن الديمقراطية والسلام»، كان في وسع المخيلات الخصبة ان ترى بالعين المجردة، ذلك «الفيلق الثاني» المرابط على الشواطئ الغربية للاطلسي متأهباً في خدمة «الامبراطورية الاميركية».

ويكفي في هذا السياق ان ندقق قليلاً في كلام روبرتسون الذي أوحى بأن ما حصل ان هو الا عملية تصحيح للتاريخ وتتويج للتحولات الجذرية في العلاقات بين العدوين السابقين في عهد الحرب الباردة. وفي الواقع من فانكوفر في كندا الى فلاديفوستوك في روسيا تمتد اراضي الدول العشرين، التي احدثت تعديلاً جوهرياً في الاصطلاح الحسابي الذي اشرنا اليه ليصبح الامر كما قلنا «19 ضد 1 = 20 في خدمة واحد»! واذا كان لنا ان ندقق في الأهداف الجوهرية لهذا التحالف فيجب ان نتبع توصيفات روبرتسون التي فاخرت بقيام «قوة واحدة للتعامل مع العدو المشترك المتمثل في الارهاب الدولي».

اذاً من حق الكثيرين في هذا العالم البائس ان يعتمروا الخوذ الواقعية او ان ينزلوا الى الملاجئ ففي غياب تعريفات منصفة ومنطقية تأخذ في الاعتبار القيم المتصلة بالحقوق الوطنية وبالقوانين الدولية وبشرائع الامم المتحدة وبمبادئ حقوق الانسان، سيستيقظ الكثيرون في الضواحي الكونية مُصنَّفين ارهابيين يجب استئصالهم، وها هو التحالف الجديد حاضر لتنفيذ هذه المهمات! وفي ظل افتراضات واقعية من هذا النوع، لن يكون في وسع كلمات جورج بوش ان تقوم بدور العطار، عندما يصف المجلس الجديد بانه «انجاز تاريخي سيساعد على اقرار السلام والحرية في اوروبا (...) وان العدوين السابقين يتحدان الآن كشريكين متغلبين على 50 عاماً من الانقسامات وعقد من الاضطرابات الامنية، وان هذا الانجاز يقربنا من هدف أكبر وهو أوروبا واحدة حرة تتمتع بالسلام لأول مرة في التاريخ».

ولكن رد بوتين كان مثيرا تماما على الأقل في الجزء الختامي منه، فقد بدا لوهلة وكأنه يستعجل الحصول على «أمر اليوم الاميركي» اذا صح التعبير. وإلا ما معنى قوله «ان اعلان روما هو مجرد بداية، وان كل الدول الممثلة حول هذه المائدة تواجه عدواً مشتركاً هو الارهاب الدولي، ولا يتعين ان يتحول المجلس مجرد منتدى لالقاء الخطب».

ولكن ما هو المطلوب اذاً؟

بالتأكيد ان تسارع قاذفات الـ «ب ـ 52» الاميركية العملاقة الى دك الجبال الشيشانية بالقنابل كما فعلت وتفعل في افغانستان.

واذا كان هذا الافتراض يعني في وضوح ان روسيا ترى في «اعلان روما» مدخلاً مفيداً يدعمها في الحرب ضد الشيشان، فإنه يعني في وضوح آخر ان اميركا ترى فيه مدخلاً مفيداً لتوسيع الحرب ضد «الإرهاب».

واذا كان بوش وبوتين ينطلقان من خلفية تساعدهما في رش المساحيق المنمقة على الأهداف المبيتة، فإن رجلا استعراضيا مثل سيلفيو برلسكوني الذي استضاف الاجتماع، كان أكثر مباشرة عندما قال: «يجب ان نوسع حدود الحرية»! ولكن كيف يتم توسيع هذه الحرية؟

يرد برلسكوني:

«يجب توسيع حدود الحرية لأنه اذا انغلقنا على أنفسنا داخل حصوننا الغربية لن نتمكن من اتمام مهمتنا (...) ان الرسالة الثانية التي يتعين ان نوجهها الى الارهابيين ومؤيديهم هي، اننا اصبحنا اليوم أكثر قوة ولن يمكنكم التغلب علينا وليس عليكم إلا ان تتخلوا عن خطتكم المجنونة»! طبعا لا يكتفي رئيس الوزراء الايطالي باعتماد لهجة كلية عندما يتحدث عن توسيع حدود الحرية وعن ضرورة اتمام المهمات «الموكلة» الى الحلف، لكنه يباشر على ما يبدو في «سرج الجياد» استعداداً للزحف وراء الإرهابيين في اربع رياح الارض ربما انقاذا لنظرية دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز التي تقول ان الحرب ضد الإرهاب قد تشمل اكثر من 62 دولة تتواجد فيها خلايا من تنظيم «القاعدة».

ولا ندري في الواقع كيف يمكن ان يحضر جاك شيراك الاجتماع المذكور وان لا تكون افكاره النيرة عنواناً للنقاشات والتصريحات، وخصوصاً انه كان وصل الى «براتشيا دي ماري» الايطالية، من «سانت مير ايفليز» الفرنسية في النورماندي، حيث تم الاحتفال بحضور جورج بوش بذكرى انزال الاميركيين والحلفاء الذي ادى الى تحرير فرنسا واوروبا من الاحتلال النازي.

وما قاله شيراك في النورماندي، انما هو الجوهر الذي ينقض الكلام في ايطاليا: «اننا اذ نكرم ذكرى المقاتلين من أجل الحرية الذين سقطوا في عام 1944، واذ نكافح اليوم الارهاب فاننا نرفض التعصب واقصاء الآخرين والعنصرية وكره الأجانب».

واذا كانت طبول المعركة قد قُرعت بشدة على هامش «اعلان روما»، فإن كلمات شيراك لم تفقد رنينها المثير في اذهان الكثيرين سواء في ذلك الاحتفال أو في اقاصي المجاهل الآسيوية والافريقية: «اننا نواجه اليوم وحشية ارهابية تثير غضبنا ونحن مصممون على استئصالها... ولكن هذه هي معركة تقبل الآخر. معركة القيم الانسانية سنواصلها معاً. ومعاً سنحقق النصر، لأن الديمقراطيات دوماً اقوى (...) ولأننا نريد عالماً أكثر اتحاداً وحرية ـ عالماً أكثر تضامناً غنياً بتنوع ثقافاته وشعوبه».

ان هذا الكلام يقودنا الى طرح مجموعة من الأسئلة المثيرة:

الى اي مدى يمكن الصوت الفرنسي ان يكون مسموعاً سواء في مجلس الـ 20 الذي يشكل «الفيلق الثاني»، أو في العاصمة الامبراطورية واشنطن.

وماذا تعلم الاميركيون من تاريخ الامبراطوريات الذي يحفل بالدروس؟ وهل دققوا فعلاً في الاسباب التي ادت دائما الى انهيارها؟