دور يمين الحزب الجمهوري المتشدد ومحافظيه الجدد

TT

بينما لعبت مجموعة صغيرة من المحافظين الجدد المؤثرين دورا هاما في صياغة السياسة الخارجية للحزب الجمهوري في الوقت الحالي، فإن اليمين المتشدد هو الذي يحدد الأجندة الداخلية للحزب.

وخلال عهد إدارة ريجان (1981 ـ 1989) توحد هذان التياران في حركة اجتماعية وسياسية جديدة حولت وجهة القضايا السياسية للحزب الجمهوري. فالنزعة المحافظة الجديدة هي الفلسفة السياسية العلمانية التي حددت رد فعل مجموعة من الليبراليين السابقين تجاه ما أحسوا بأنه سياسة استرضاء من جانب الحزب الديمقراطي تجاه الاتحاد السوفياتي، وخصوصا تعامل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية مع سكانه اليهود وعلاقاته مع العالم العربي، وكانت هناك مجموعة صغيرة، لكن مؤثرة، من الكتاب والمعلقين والمسؤولين الحكوميين.

وقد ولدت حركة اليمين المتشدد في إطار رد فعل، أيضا، ولكن في هذه الحالة كان رد فعل على التيارات الثقافية المضادة التي هزت الولايات المتحدة في أواخر ستينات وسبعينات القرن الماضي. وإذ وجدت قضايا حقوق النساء (بما فيها«حق الإجهاض») وحقوق المثليين وغيرها، مكانا في أجندة الحزب الديمقراطي، وجه الكثير من الزعماء البيض المتشددين من أبناء الطبقة الوسطى ذوي التوجهات العائلية، مجاميعهم نحو عدد من المنظمات القومية في إطار تعزيز «القيم التقليدية».

وخلال عهد ريجان برع التياران السياسيان في استخدام نفوذ كبير. فقد حول المحافظون الجدد وجهة السياسة الخارجية للبلاد من تركيز على حقوق الإنسان والديمقراطية (كما كان الحالي في عهد إدارة كارتر) إلى تركيز على مكافحة «الإرهاب المدوم سوفياتيا» ومواجهة «امبراطورية الشر». ومن ناحيتهم كان أعضاء حركة المحافظين الناشئة ذات التوجه المتشدد قادرين على تحديد الأجندة الداخلية في إطار طائفة واسعة من القضايا الاجتماعية.

وتحت مظلة ريجان شكل هذان التياران الحديثان تحالفا غير مريح في بعض الأحيان مع الجماعات الجمهورية الأكثر تقليدية مثل «الأمميين» ذوي التوجه التجاري، والليبراليين الذين دافعوا عن حكومة صغيرة وخفض للضرائب. وبينما تميز هؤلاء الجمهوريون التقليديون، أيضا، بتوجه محافظ، فقد كانوا أكثر براجماتية واعتدالا من الاتجاهين موضع البحث.

ولكن يمكن تشخيص المحافظين الجدد واليمين المتشدد، على أفضل نحو، باعتبارهم حركات أصولية. فهي حركات آيديولوجية وبراجماتية. كما أنها تتسم بروح المجابهة وعدم المساومة.

وبينما كان يمكن قول هذا الشيء بشأن المحافظين الجدد، فقد كان اليمين المتشدد، في البداية، حركة اجتماعية غير متبلورة.

وخلال الحملة الرئاسية عام 1988 انتقل المحافظون المتشددون من كون حركتهم رد فعل على ما وصفوه بـ«الانحطاط الأخلاقي»، إلى منظمة سياسية فعالة ذات آيديولوجية متماسكة. وفي تلك الانتخابات كان بات روبرتسون، أحد المبشرين البروتستانتيين في التلفزيون ولديه أنصار في مختلف أنحاء البلاد، من بين ستة من الجمهوريين الذين تحدوا نائب الرئيس جوج بوش في عملية ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة.

وكان نجاح روبرتسون في تعبئة الناخبين المسيحيين المحافظين في ذلك السباق قد ألهمه على أن يؤسس، بعد الانتخابات، منظمة سياسية جديدة سماها «التحالف المسيحي». وأصبحت هذه الجماعة الأداة الرئيسية لليمين المتشدد.

وبحلول منتصف التسعينات كانت هذه الحركة قد أفلحت في الفوز بالسيطرة على أجهزة الحزب الجمهوري في سبع عشرة من الولايات الخمسين. وفي أربع وعشرين ولاية أخرى حققت نفوذا كبيرا أيضا. وفي ذروة نشاطها كسبت منظمة التحالف المسيحي، المنظمة الرئيسية لليمين المتشدد، ما يزيد على عشرة ملايين عضو، وقدرة على التأثير على ملايين آخرين.

إن ما فعله روبرتسون لم يكن مجرد تنظيم المحافظين ذوي التوجه المتشدد في قوة سياسية، فقد سعى، وآخرون، إلى إضفاء أجندة سياسية ودينية أوسع على هذه الحركة. وكان لاهوتهم، الدي هو صيغة محرفة عن المسيحية (رفضتها معظم الكنائس المسيحية الكبرى) يكشف عن تعاليم تشير إلى أن نبوءات «العهد القديم» كان مقدرا لها أن تعاد في العالم الحديث، لتؤدي إلى «يوم القيامة» و«معركة هرمجدون الأخيرة»، كما نادى به «العهد الجديد».

ووفقا لهذا المذهب في التفكير فإن تجمع اليهود في إسرائيل عام 1948 كان جزءا من غاية الرب لخلق المعركة الفاصلة التي ستواجه فيها قوى الخير (التي يراها المسيحيون الأصوليون باعتبار أنها الولايات المتحدة وحلفاؤها) قوى الشر (التي ينظر إليها باعتبار أنها الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه ـ العرب والمسلمون). وستؤدي هذه المعركة إلى تدمير العالم، الذي يعتبر بالنسبة لهذا اللاهوت، ضرورة، قبل أن يتمكن المسيح من العودة لإنقاذ «المختارين، المؤمنين».

وأكدت هذه النظرة المسيحية الأصولية، على الرغم من أنه يتعين تحول كل اليهود، في نهاية المطاف، إلى المسيحية لإنجاز النبوءات، أنه يجب دعم إسرائيل بأي ثمن كان. ومن هنا الدعم القوي الذي يمنحه اليمين المتشدد لإسرائيل.

وعلى الرغم من أن المحافظين الجدد علمانيون (وفي بعض الأحيان ليبراليون تماما في نظرتهم الاجتماعية)، وأن اليمين المتشدد يستند إلى اللاهوت، فإن هذين التيارين يتفقان في عدد من الأفكار:

ـ فكلا التيارين مانويان، أي أنهما يريان العالم بطريقة ثنائية مطلقة كأسود وأبيض، وكخير وشر.

ـ وكلا التيارين يحددان قوى الخير باعتبارها بزعامة الولايات المتحدة وإسرائيل، ويريان قوى الشر (التي حددت ذات يوم باعتبارها الاتحاد السوفياتي، ويريانها الآن باعتبارها دول «محور الشر» الداعمة للإرهاب) باعتبارها تضم العرب والمسلمين.

ـ وكلا التيارين يتسمان بروح المجابهة وعدم المساومة. ويعتقدان أنه لا يمكن أن تكون هناك تسوية مع أولئك الذين يمثلون الشر. وكلاهما، بالتالي، يسعيان إلى المواجهة والصراع، وليس حل النزاعات عبر المفاوضات.

ـ وكلا التيارين يؤمنان بالمطلق ما دامت آيديولوجيتهما لن تسمح إلا بالنصر الكلي.

وبينما جاء فوز الجمهوريين الساحق في انتخابات الكونغرس عام 1994 بالكثير من أنصار اليمين المتشدد إلى مواقع الزعامة في الكونغرس، فإن المحافظين الجدد وحركة المحافظين المتشددين لن يكونوا راضين ما لم يشعروا أنهم قد عادوا، مرة أخرى، إلى البيت الأبيض. ولم يكن كلا التيارين يشعران بالارتياح من رئاسة جورج بوش الأب. فقد كان، بالنسبة لهم، جمهوريا معتدلا وميالا إلى التسويات. وعلى الرغم من محاولات بوب دول لكسبهم، فإن أيا من الجماعتين لم تكن تثق به. ولكن في جورج دبليو بوش شعرت الحركتان بأمل في أنهما وجدتا بطلا. فقد عين الرئيس بوش زعماء بارزين من المحافظين الجدد واليمين المتشدد في مناصب هامة في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والعدل. وبينما تعاني منظمة «التحالف المسيحي»، حاليا من حالة انحدار، فقد نقلت مجلة سياسية ذات نفوذ عن أحد أبرز المحافظين المتشددين قوله مؤخرا «إن المنظمة ليست، الآن، بتلك الأهمية، بعد أن استولينا على البيت الأبيض والكونغرس».

وقد قال ستيفن شبيغل، أستاذ العلوم السياسية اليهودي الأميركي البارز، إنه «إذا ما ركز المرء على قوة الجماعات اليهودية فقط فإنه يخطئ وجهة السفينة. إن اليمين المسيحي يتمتع بنفوذ فعلي في صياغة موقف الحزب الجمهوري تجاه إسرائيل».

وكان هذا جليا، مؤخرا، في مسعيين متميزين: الضغط الذي تعرض له الرئيس بوش أواسط أبريل (نيسان) الماضي عندما بدا أنه يميل إلى اتخاذ موقف متشدد من رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون، وإقرار الكونغرس الشهر الماضي قرارات أحادية الجانب دعما لإسرائيل. وكان كلا المسعيين حصيلة عمل القوى الموحدة لليمين المتشدد والمحافظين الجدد.

ومن المهم ملاحظة أنه في هذه الأيام العصيبة يلتقي بعض زعماء وجماعات العرب الأميركيين في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة مع زعماء يهود أميركيين في محاولة لإيجاد وسيلة مشتركة نحو السلام. وفي الوقت ذاته أصدرت الكنائس المسيحية الرئيسية في الولايات المتحدة، التي تمثل أغلبية كاثوليك وبروتستانت الولايات المتحدة، نداءات من أجل السلام وحقوق الفلسطينيين.

ولكن حتى مع هذه الجهود الإيجابية والجديرة بالثناء، فإن القوى المنظمة لليمين المتشدد وخلفاءهم المحافظين الجدد، هي التي ما زالت تحدد، حتى الآن، وجهة الجدل بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.