طريق إيراني ثالث

TT

ان تكون ايرانيا وطنيا ثقافة وحضارة وصاحب انتماء حقيقي في النشأة والهوية، يعني ان تكون مسالما ومعتدلا وصاحب رأي وسطي يدعو الى «المروءة مع الصديق والمداراة مع الخصم او العدو» عملا بنصيحة او تعليمات الشاعر الشهير حافظ الشيرازي.

وان تكون ايرانيا ملتزما بالهوية الوطنية المعاصرة عقيدة وثقافة وسياسة وانتماء حقيقيا للموقع الجيو استراتيجي الذي تمثله ايران، يعني ان تكون بالضرورة مساندا للحق العربي الفلسطيني وتعمل بجد واجتهاد لنصرة اخيك المسلم في فلسطين من اجل استرداد حقه الثابت والمشروع في وطنه من سلطة الاغتصاب والاحتلال عملا بالحديث الشريف: «من اصبح ولم يهتم بأمور المسلمين ليس بمسلم». وكذلك عملا بتعليمات وتوجيهات زعيم الاصلاح الوطني الايراني المعاصر الامام الخميني، الراحل، الذي قال كلمته الشهيرة بعد ايام فقط من انتصار ثورته الوطنية والداخلية على نظام الاستبداد الشاهنشاهي: «اليوم ايران وغدا فلسطين».

ماذا يجري حاليا في ايران على هذا الصعيد؟ ثم هل يعني هذا فيما يعني، ان ايران اليوم تعيش مفارقة تاريخية واشكالية ديبلوماسية ينبغي البحث عن حل مناسب لها؟

تجتاح النخبة الايرانية اليوم موجتان: الاولى تقول بأن علينا ان نعمل بجد لتنشيط سياستنا الخارجية، القائلة بضرورة «نزع فتائل التوتر» بما يتناسب مع مصالحنا القومية، تصحيح صورتنا لدى الخصم أو الخصوم، بما من شأنه ان يوفر لنا المقعد المناسب في المعادلة الدولية التي تتجه للتبلور في اطار نظام عالمي جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الباردة.

ومثل هذا التوجه دفع عمليا، بجمع كبير من ابناء النخبة الملتفين حول راية «الاصلاح والتغيير» في البلاد، الى بلورة شعار جديد في العمل السياسي والدولي الايراني، مفاده الدعوة الى «التحالف من اجل السلام». وهو النشاط الذي تقوم به جماعة من نخبة المقربين من الرئاسة الايرانية، ويعدون له في اطار مؤتمر دولي يعقد في طهران قريبا تحت العنوان الآنف الذكر.

بالمقابل، او في هذه الاثناء فإن الموجة الثانية، التي تتجدد عمليا في كل يوم يمر تتصاعد فيه حدة النضال الفلسطيني وتتفاقم حدة النزاع العربي الاسرائيلي، وهي الموجة التي تدعو الايرانيين الى اعادة تفعيل دورهم كقوة اسلامية عظمى في المنطقة استطاعت ان تنتقل، بفعل الثورة الاسلامية عام 1979، من معسكر العدو الامبريالي الى معسكر الشعوب، بما يؤدي الى دعم حقيقي وفعلي للنضال الفلسطيني عموما، والانتفاضة الفلسطينية بشكل خاص. وهو ما يتبلور عبر جماعات متعددة من بينها نخبة اخرى من المقربين من الرئاسة الايرانية ايضا، بالاضافة الى اطياف اخرى مقربة من القيادة الدينية العليا، والتي تعد في هذه الايام بالذات الى مؤتمر جديد يضاف الى مؤتمرات سابقة في هذا السياق عنوانه «الامام وفلسطين» وشعاره «اسرائيل نظام عنصري يجب ان يزول من خريطة انظمة الشرق الاوسط».

عندما سئل أحد أساتذة الجامعة وكان يحاضر في مركز الدراسات السياسية والدولية التابع للخارجية الايرانية، قبل ايام، عن وجه المفارقة التي يمثلها ما يدعو اليه من «تحالف من اجل السلام» وما يدعوه آخرون من اقرانه «تحالف من اجل دعم الانتفاضة الفلسطينية»، وما اذا كان ذلك يشكل نوعا من «التناقض» في السياسة الخارجية للبلاد، اجاب بلغة حافظ الشيرازي «المتسامحة» قائلا:

«بالتأكيد لا، فالذين يدعون للسلام يريدون اصلاح العالم وتخليصه من التوتر والانفجار اللذين عادة ما يقودان الى حروب شنيعة ممقوتة، والذين يدعون الى دعم الانتفاضة يريدون ايضا، بدورهم اصلاح العالم وتخليصه من اوجه الظلم المتعددة القائمة في العالم وفي المنطقة وتاليا، ارساء العدالة الانسانية المطلوبة».

وتوسع النقاش وبدأ شرح بعض الاساتذة لمقولة «التحالف من اجل السلام» يتطرق الى تفصيلات، من نوع الاستفادة من دروس التاريخ البعيدة والقريبة، وبدأ الاستشهاد بصلح الحديبية، وصلح الامام الحسن ونماذج تاريخية اخرى اكثر معاصرة، وهو ما يعني بالنسبة الى اصحاب الدعوة «السلامية» امكانية «عقد سلام» ما مع الكفار والعدو الاستراتيجي للأمة سواء من اجل «أخذ النفس» المطلوب او «لضرورات استراتيجية» تتعلق بموازين القوى او ما شابه، بل انه من غير الممكن احيانا النجاح في المهمة إلا بمشاركة قوى دولية فاعلة بمن فيها الخصم او العدو الرئيسي مثل الولايات المتحدة الامريكية اليوم، كما ذهب احد الاساتذة في تحليله، وما كان من أحد قادة «حزب الله الايراني» المعروفين وهو حسين الله كرم إلا ان يتساءل مستغربا: «الا يعني مثل هذا القول رفع الراية البيضاء امام العدو والتسليم بشروطه»؟

وجاءه رد الاستاذ الجامعي والمخضرم السيد قاسم قاسم زادة: «ان الدعوة للتحالف من اجل السلام لا تعني بالضرورة الدعوة من اجل الاستسلام مطلقا». شارحا وبشكل مطول السلام من وجهة نظر المسلمين عبر التاريخ، مقابل السلام المزيف والمزعوم الذي تتشدق به اسرائيل.

ايا تكن قوة البراهين والادلة والتبريرات التي يستند اليها اصحاب الموجة الاولى، او دعاة الموجة الثانية. فإن القدر المتيقن هو ان هناك مفارقة ترتسم في الافق السياسي الايراني، وان النخبة الايرانية تعيش منعطفا تاريخيا هاما، وهي مطالبة اكثر من اي وقت مضى بتحديد مواقفها بدقة أكثر، وعدم البقاء «سابحة» في فضاء الدبلوماسية ظنا منها ان السباحة في العمل الدبلوماسي تشبه السباحة في العمل الفكري والثقافي! ان العالم، الصديق والعدو ـ لا فرق ـ انما يتعامل مع المرء بناء على نتائج اعماله وممارساته السياسية والدبلوماسية، وليس على نواياه حسنة كانت أم سيئة! من هنا فإن الشعار الذي يفضله البعض، من ابناء النخبة الايرانية من جماعة «الوسط» اذا جاز التعبير، هو: «التحالف من اجل العدالة»، وهو تحالف ينبغي ان ينشأ مع كل محبي السلم بمفهومه العادل والشامل والذي يقر للمظلومين والمضطهدين والرازحين تحت الاحتلال ويضمن لهم حقهم المشروع في المقاومة واسترداد الحقوق، وهو تحالف عملي وممكن.