المثقفون السعوديون .. ولحمُ الحُوار!!

TT

جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجاء معها المولود العجيب، والكسيح، والأعرج، وما بينهما!! وآخر ما جاء على لسان الشبكات وأفواه الرواة «بيان المثقفين»!! قبضت على ورقاته، فاستلقيت على قفاي من الضحك... ولكنه ضحك كالبكاء!! أناس لا يقبلون الحوار .. حتى يلج الجمل في سم الخياط.. لأن آفاقهم أضيق من «سم الخياط»!! أعرف سوادهم الأعظم.. أولئك الذين وقعوا..

فمنهم من جمعتني به «مقاعد درس» ومنهم من قرأته (كتابا).. ومنهم من سمعته «شريطا» ومنهم من أجلس اليه اسبوعيا..

ومع هذا لم ألمح في مخرجات أي منهم قابلية حوار او معطيات مباهلة، أو اقامة مجادلة، أو حتى مناقشة بالتي هي أحسن، أو حتى أقل حسنا..!! ومع هذا قوبل البيان بزفة عريضة .. هلل لها من يعرفون السياق الثقافي، والترتيب الحضاري، والبعد الانتاجي لمخرجات الكلمة في مجريات الهامش، وممرات الأفق!! ومثل هذه الاسماء لا تقبل الحوار مع مذاهب متحدة معها في الاتجاه ومساوية لها في اليقين.. ومتضامنة معها في الرؤية.. ولكنها تختلف معها وحولها وفيها في التناول والأخذ والنتيجة والتحليل والاستدلال..

إن هذه العقول الموقعة أدناه في ذلك البيان، لا ترتقي لحوار من ذلك النوع الذي تدعيه، بل انهم لا يقبلون الحوار مع النسوة اللاتي شاركن اشقاءهم الرجال.. فهم يحملون في رؤوسهم الصواب المطلق وامتلاك الحقيقة، وأحادية الرأي والفكرة والرؤية.. فالعين لا تبصر إلا الأبيض والأسود.. ولقد كانت عورة المثقفين هنا مخففة حتى جاءت «ليلة التوقيع» فبانت العورة المغلظة، لذا يقول أحد منتقدي البيان:

«كيف يسوغ لي ولغيري من القراء ان نتفهم دعوة ذلك المثقف الذي ملأ الدنيا ضجيجا عن الحداثة والحداثيين، وفتن الخلق وصنفهم وقذف أبناء جلدته في دينهم وعقائدهم، ومن ثم أتصوره منفتحا على الثقافات متسامحا داعيا الى الحوار..؟».

* تحرير

* ان مبدأ الحوار مسلك حضاري وردي يسر السامعين وقبل ذلك المتحاورين.. ولكن هذا المسلك يحتاج الى عوامل كثيرة لا تتوفر في اصحاب التواقيع المزخرفة .. حتى لو اصدر المثقفون الامريكيون بيانهم «المحكم» فهم يستندون الى مرجعية ثقافية وعلمية يدفعها سياق حضاري، ومنظومة قيم، ونسق مسلكي يرفعها الى مراتب «لا تقنع بما دون النجوم»، أما أولئك القوم الذين جعلوا لأنفسهم «ذات أنواط» كما لمثقفي امريكا (ذات انواط) فدونهم ودون الحوار مسافة حضارية وصحراء من ضيق الرؤية، يضيع فيها البشر والآراء والأشياء..

وفي النهاية ليست المسألة اصدار بيان ردا على بيان «فلا يكفي أن تقطع ذيل الكلب حتى يشبه الحصان»!! ناهيك من ان امريكا العظمى يصل عدد سكانها الى اكثر من ربع مليار نسمة، وان مثقفيهم الموقعين ستون.. بينما (جماعتنا) يصلون الى اكثر من 16 مليونا وعدد الموقعين (عن أنفسهم) أكثر من 145.. ماذا نسمي هذا (إنها شهوة التواقيع) على الفاضي والمليان، واتباع الآخر حذو القذة بالقذة، مع الفرق الكبير بين من سينتهي الى مدينة بملايين وبين من سينتهي الى جحر ضبٍ خرب!!

* ملف

* يقول عبد الرحمن محمد اللاحم (الوطن 1423/2/23هـ) ـ وهو في نظر صاحب هذه السطور أفضل من قيّم وشرّح خطاب أولئك الذين أخذتهم الورقة بالبياض فكتبوا بيانهم (الخجول) .. يقول اللاحم في تقويم نهائي للبيان:

«اذا افترضنا ان ذلك البيان كان هدفه ايجاد أسس للتعايش مع الغرب كما تزعم ديباجته، لا يكون الهدف منه مجرد اثبات وجود لرموز بعينها والتسويق لهم اعلاميا، والبحث عن وهج من النور لمن لا يطيق المكوث في الظل، وارسال رسالة مبطنة للسياسي ان القوم قد تغيروا وان الايام قد عملت بهم وبأفكارهم، فإن كان ذلك الهدف المبتغى، فذلك يبحث عادة في أبواب (المصالح)»!!

* تحديث

* أتصور ـ وهو تصور بسيط ـ ان الموقعين كانوا يطلبون من المثقفين «لحم الحُوار» وليس «الحِوار»، والحُوار لمن لا يعرف هو صغير الإبل، يقول أحدهم:

مليح مسيخ (كلحم الحُوار) فلا هو حلو ... ولا هو مرّ!! ويبدو ان الكلمة لم تضبط بالشكل، لهذا قرأت (حُوار) بضم الحاء وليس بكسرها.. لذا تهافت الموقعون على البيان توقيعا وعنوانا ووظيفة حتى يأتيهم نصيبهم من هذا اللحم.. مع أنه يوجب الوضوء!! وطالما أننا في حضرة الإبل، يطيب للقلم أن يتذكر مثلا عربيا قديما يقول: «تمخض الجمل فولد فأرة»، إن اغلب المثقفين لا يقبلون الحوار مع أنفسهم أو أسرهم أو اطفالهم أو حتى مع عشيرتهم الأقربين!! وفي حقل الفأرة تروى قصة طريفة في كتب التاريخ، مفادها أن مجموعة من الفئران اجتمعت ذات يوم لمناقشة اعتداءات القط عليها، فتوصلت، في آخر الاجتماع، الى تعليق جرس في رقبة القط حتى يشعروا بقدومه، فما كان من مجموعة الفئران إلا أن استحسنت هذا الرأي واعجبت به.. ولكن الفرحة لم تتم.. فمن الذي سيعلق الجرس؟! حسنا، من الذي سيتصدى للمحاورة؟! اذا كانت القدرات والسياقات والمكونات والخلفيات والمنظومات لا يمتلكها الموقعون أعلاه وأدناه وأقصاه!! إن فكرة الحوار (بحجم ذاتها) فكرة فاضلة، وفضيلة برتقالية، ولكن الاعتراض على أصحاب الفكرة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن المستحيل أن يصبح النسر صقرا، حتى لو ترك أكل الجيف، ووقع مع الصقور!! إن من غير اللائق مناقشة البيان، لأن مجرد المناقشة تفرض «الاعتراف به»، لذا لا يعنيني ما جاء في البيان من أفكار، فهي تجسيد لقوله عز وجل: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون». والذي ينطلق من الطريق الخطأ لن يصل الى الصواب مهما غير من ملابسه واسرع بخطواته وبدل سيارته.. فالمسألة مرتبطة بالجذور والعقلية والتفكير، وطريقة الاستقبال والارسال وكل محاولة من غير استلهام ما سبق مثل «من يغمز بعينه ليلا»!! ولا يحمد لهذا الذي يسمونه «بيانا» إلا اعطاء قوة عنيفة لشبكة الانترنت، قوة أصبحت معها توجه «الصحافة الورقية»، فمع كل هذا الضجيج «الهائل» الذي احدثه في أروقة الصحف، لم ينشر البيان في أي صحيفة ـ حسب علمي ـ انما تمت قراءته والاطلاع عليه في منتديات الحوار وساحات النقاش في الشبكة (العنكبوتية)!! إن فضيلة الحوار سلوك حضاري، يحتاج الى مقومات مسلكية لا تتوفر في انسان عشق التوقيع منذ الصغر.. فما ان يجلس بجوار علبة «مناديل» حتى يصبغها بالتواقيع.. عرضا وطولا.. وأفقيا وعموديا!! فكيف وقّع من وقعوا؟!! وكيف يقفزون للحوار مع «بلد الاحلام» كما هي تسمية ميخائيل نعيمة «لأمريكا» .. قاتل الله القفز!!

* اغلاق قام به الشاعر السنوسي:

* إن الحضارة أسماها وأرفعها

* أن تحسن المشي فوق الأرض «إنسانا»

* كاتب وأديب سعودي [email protected]