إني خيرتك.. فاختاري..

TT

رحم الله شاعرنا الكبير نزار قباني، فقد طاف خياله في الذهن عند قراءة آخر صفحة من صفحات كتاب الدكتور غازي القصيبي الأخير، أو الأخير حتى هذه اللحظة وفق علمي على الأقل، وهو يقول: «إني خيرتك.. فاختاري، ما بين الموت على صدري، أو فوق دفاتر أشعاري. اختاري الحب.. أو اللاحب، فجبن أن لا تختاري. لا توجد منطقة وسطى، ما بين الجنة والنار». ونحن اليوم في مرحلة اختيار وجودية (من وجود) كبرى، لا علاقة لها بالحب والمحبين، وان لم تخل من علاقة حب بشكل آخر، بقدر علاقتها بالوجود والعدم ذاتهما. يلخص الدكتور غازي القصيبي لحظة الاختيار هذه، وهو ينهي كتابه بالقول: «إن الحقيقة التي تعيشها العولمة، والحدود المفتوحة، وثورة الاتصالات والمواصلات، والتغييرات السريعة في كل مكان، تضع الأنظمة العربية أمام خيارين: اما أن تتعلم السباحة في طوفان المتغيرات، واما ان تغرق في الخضم. اتمنى للأنظمة العربية الراغبة في الاصلاح ان تجد الفرصة الكافية لتحقيق الاصلاح. أما الانظمة التي لا تود تغيير شيء وتعتقد انه ليس بالامكان أفضل مما كان، فارجو ان تعثر على جبل يعصمها من الموج» (أمريكا والسعودية: حملة إعلامية أم مواجهة سياسية؟!! المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2002، ص 134). ونضيف الى ما يقوله أستاذنا القصيبي هنا بأن تلك الأنظمة التي لا تود تغيير شيء، وترى الكمال فيما ليس بالضرورة كاملاً، فإنها حتى لو وجدت جبلا متوهمة انه سيعصمها من الماء، فإنها لن تجده عاصماً، وذلك بمثل توهم ابن نوح حين رفض الصعود الى الفلك مع ابيه، ولجأ الى جبل يعصمه من الماء، فكان في النهاية من الغارقين.

هي لحظة اختيار حتى الآن، ونحن قادرون على الاختيار حتى هذه اللحظة، ولكن قد لا تكون لحظة الاختيار هذه متاحة بعد ذلك، بمثل ما كان ابن نوح حر الاختيار في ان يركب السفينة او لا يركب، ولكن بعد ان مضت السفينة لم يعد بمقدوره الخيار حتى لو أراد. فالحرية في النهاية هي القدرة على الاختيار، ولكن الأهم من القدرة على الاختيار هو معرفة متى يمكن الاختيار ومتى لا يمكن. فعالم اليوم ينطبق عليه ما قاله الشاعر «جون دون» قبل حوالي الخمسة قرون من أنه: «ليس من إنسان جزيرة قائمة بذاتها، فكل انسان قطعة من القارة، جزء من الكل..». واذا كان الشاعر يتحدث عن الوضع الانساني وموقع الفرد في الجماعة، فإن مقولته هذه يمكن النظر اليها من زاوية ان العالم، ولأول مرة في تاريخه، تحول الى وحدة متداخلة متشابكة، تنطبق عليها مقولة «حسني البرزان» الشهيرة، والتي كان المراد منها الاضحاك لا الإبكاء، من أننا اذا اردنا ان نعرف ما في ايطاليا، فعلينا ان نعرف ما في البرازيل.

لم يعد هناك مجال اليوم للحديث عن خصوصية مطلقة، والخصوصية المطلقة وهم على أية حال، أو حرية مطلقة لهذه الجماعة أو ذلك النظام ان يفعل ضمن حدوده ما يشاء وكما يشاء. ولكن المشكلة ان هنالك من لا يستطيعون التفرقة بين ما تمليه الظروف الموضوعية من ضرورة معينة، وبين الموقف الذاتي الشخصي أو الجماعي الذي لا يريد الاعتراف بأن التغير هو الثابت الوحيد في عالم اليوم، بل وفي كل وقت، ولكن وتيرة اليوم أكبر وأشد، بمثل ما كان طوفان نوح مقارنة مع أي طوفان قبله. اما الثبات المطلق، فلا يمكن ان يوجد الا حين يطوي الرحمن السماوات والأرض طياً، أو في عالم المثل الافلاطوني. لقد كان ابن نوح العنيد يعتقد ان الطوفان مثله مثل اي طوفان سابق، يمكن النجاة منه باللجوء الى قمة عالية، ولكنه لم يدرك ان المسألة كانت غير ذلك الا عندما وصله الماء، ولكن الوقت كان متأخراً لفعل اي شيء آنذاك.

وكثير من الانظمة العربية وغير العربية تعتقد، بل وتتوهم، انها في النهاية قادرة على فعل ما لم تفعله الاوائل او الاواخر، من القدرة على التحكم في المتغيرات وأمواج التغيير، وهذا موقف طيب ويعبر عن ثقة في النفس لا شك، ولكن شتان ما بين الثقة بالنفس والعناد، أو حتى المكابرة، فبينهما شعرة دقيقة، كتلك التي بين العبقرية والجنون كما يقولون، او بين الحلم والوهم، فابن نوح كان واثقاً من ان الجبل سوف يعصمه من الماء، ولكنها ثقة بالنفس وصلت الى درجة العناد والمكابرة، وذلك ما منعه فعلاً من ركوب الفلك والنجاة مع الناجين. بل ان فرعون نفسه كان من المكابرين حين اخذته العزة بالإثم، فرفض كل ما كان يجري حوله، رغم ان كل شيء حوله كان يقول ان الكارثة قادمة قادمة، ولم يعترف بهذه الحقيقة الا حين أطبق عليه البحر فكان من الهالكين. قد يقول قائل هنا كيف تقارن بين ما جرى أيام نوح وموسى وغيرهما من الانبياء، عليهم السلام جميعاً، وبين ما يجري في عالم اليوم. فما حدث آنذاك كان متعلقاً بقضية دينية وأمر الله، اما ما يجري اليوم فلا علاقة له بمثل هذه المسائل، رغم ان امر الله يشمل كل شيء، وبالتالي فإن قياسك خاطئ، بل وفاسد من اساسه. ربما، فنحن لا ندعي معرفة بقدر ما نحن من الباحثين عن معرفة، ولذلك يمكن القول ان القياس هنا بعمومه سليم. فالمغزى هو المهم وراء القصص التي وردت في كتب الله المقدسة وفي التاريخ الذي كتبه الانسان، ومغزى هذه القصص في الحالة المناقشة هنا هو عدم المكابرة وعدم العناد، والا فإن النتائج تكون دائماً وخيمة. العلاقة مع الآخر الاجنبي يجب ان تتغير، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم يجب ان تتغير، والعلاقة بين افراد وجماعات المجتمع يجب ان تتغير، وفوق كل هذا وذاك، فإن الثقافة السائدة نفسها يجب ان تنفتح على عوامل التغيير، والا فإن كل شيء لن يكون ذا جدوى: هذا ما تقوله احداث ومتغيرات عالم اليوم.

وبعيداً عن العناد والمكابرة، فإن المشكلة الأكبر تبقى، وهي التي يمكن تلخيصها في عبارة «ميلان كونديرا»، من ان «اليقين فكرة تحجرت»، او كما قال البرت اينشتين من ان فلق الذرة اهون من اقتلاع قناعة مسبقة لدى احدهم، فكثير من الاحيان يكون الانسان عدو نفسه، بل والقصص والتاريخ تخبرنا بأن الانسان كان عدو نفسه غالب الاحوال والا لما كانت كوارث التاريخ والمجتمعات والانظمة، من حيث اعتقاده ارادة الخير والعزة والمنعة لنفسه وجماعته واهماً، فيما هو في الحقيقة يجني على نفسه وجماعته، نتيجة تعلقه بمسلمات ليس من الضروري ان تكون حقيقة من المسلمات في نهاية الأمر، وحين التحليل غير الخاضع لأي افكار مسبقة دون تمحيص. ففي النهاية نحن من يصنع كثيرا من المسلمات، ونحن من نفرضها على انفسنا، بمثل ما يقوم الوثني بصنع وثنه ويعبده في النهاية، غافلاً عن أنه يعبد حقيقة ما صنعت يداه، وجبلت يمناه، واعتقد ان هذا هو المعنى العميق لقول الرحمن جلت قدرته: «بل قالوا انا وجدنا اباءنا على أمة وإنا على اثارهم مهتدون» (الزخرف، 22). لذلك نجد ان نبي الفطرة، صلى الله عليه وسلم، لم يكن يحاول تحطيم الأوثان فقط، بل كان يريد تحطيم اوثان العقول قبل اي شيء آخر، فإنه عند تحطيم وثنية العقل، لا يعود للأوثان وجود حتى وإن وجدت.

من هنا كانت عملية اصلاح الثقافة سابقة، او مترافقة مع اي محاولات اخرى للتغيير او الاصلاح. فاستخدام التكنولوجيا مثلا ليس تقدما بذاته، ما لم يترافق مع الثقافة التكنولوجية، اي تلك الثقافة التي ادت الى اختراع التكنولوجيا ذاتها واستخدامها، قبل ان يكون هناك تكنولوجيا. ومجرد النظر الى الديموقراطية بصفتها نظاماً سياسياً يقوم على حكم الاغلبية وحقوق الأقلية، ليس كافيا بذاته، اذا لم ينظر اليها على انها نظام متكامل ومتشابك من القيم، وعلى رأسها المساواة والتسامح وحرية البحث عن الذات. بل يمكن الزعم هنا أن فشل الديموقراطية في كثير من دول العالم، ودول العرب منها، هو هذا الاختزال والابتسار للديموقراطية بحيث اصبحت اما مجرد غطاء لطغيان خفي اكبر، أو انها لم تؤخذ ككتلة واحدة، بصفتها ثقافة ونظاماً سياسياً واجتماعياً في ذات الوقت. وحين الحديث عن الاصلاح والتغيير في عالم مثل عالم اليوم، فإن فلك نوح هنا هو جذرية التغيير، لا مجرد عملية ترقيع لن تؤدي في النهاية الا الى ذات النتيجة، ألا وهي الكارثة. نعم، نحن اليوم في لحظة اختيار كبرى، هي الاختيار ما بين ان نكون أو لا نكون، جزءا من العالم وتغيراته، أو الانضمام الى قائمة العرب البائدة. بدون حسم في مسألة الاختيار هذه، لن يبقى لنا في النهاية الا خيار نزار لحبيبته في ان تموت على صدره أو فوق دفاتر اشعاره، اي خيار الموت وحده، وكفى بالموت خياراً.