جرياً وراء سراب اسمه.... الديمقراطية

TT

العائلات السياسية موجودة حتى في ارقى ديمقراطيات العالم... لا مشكلة في هذا. الا انها في العالم الثالث «حاجة تانية».

في العالم الاول تلعب العائلات السياسية في الديمقراطيات الانتخابية دورها ضمن الاحزاب. ضمن المؤسسات الحزبية. ووفق البرامج الحزبية قد تختلف او تتفق، وعندها تربح وتخسر على اساس تقبل الناخب هذا البرنامج او رفضه اياه، وليس لـ«سواد عيون» زيد او «خفة ظل» عمرو. وقد تنقسم العائلات على عدة احزاب، او تنتظم في احزاب متصارعة مثل عائلتي روزفلت وروكفلر في الولايات المتحدة، او مثل الأخوين هانس ـ يوخن وديتر فوغل في المانيا (الغربية). غير ان العنصر «الشخصاني» يحتل مرتبة متأخرة جداً في اعتبارات الحزب او الناخب.

اضف الى ما سبق ان ارتباط المرشح، او سليل العائلة السياسية، بمنطقة جغرافية معينة يفيد في بعض الحالات ولنأخذ مثلاً الولايات المتحدة. فعائلات مثل آل كنيدي صنعت مكانتها اساساً في ولاية ماساتشوستس وكذلك آل تافت في اوهايو وآل ستيفنسون في ايلينوي. غير ان عائلات سياسية ناجحة اخرى صعد ابناؤها ضمن المؤسسة الحزبية وتوزّع نفوذهم عبر الاحزاب خارج حدود الولاية ـ الأم، فآل روكفلر برز منهم نيلسون في نيويورك ووينثروب في اركنسو وجون «جاي» في ويست فيرجينيا. وآل بوش برز منهم بريسكوت في كونكتيكت وجورج «الأب» وجورج «الإبن» في تكساس وجيب في فلوريدا.

في العالم الثالث المسألة مختلفة. فقد تقمّص النفوذ الاقطاعي في الارياف ـ او المحلي في المدن ـ النفوذ الانتخابي السياسي عندما اعتمدت الدول الحديثة آلية الديمقراطية الانتخابية.. اضطراراً او اختياراً او تقليداً ببغائياً. وسبق لي في هذه الزاوية بالذات ان تناولت حالات عديدة على امتداد الوطن العربي كرست انتقال النفوذ الاقطاعي او النخبوي لعائلات بعينها الى البرلمانات المستحدثة... في الكيانات المستحدثة. ولكن بمرور الزمن، ولا سيما منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي حدث تغير دراماتيكي هائل قلب اوضاع الاقطاع والنفوذ الطبقي اثر الانقلابات العسكرية والثورية تحت شعارات التحرر والاشتراكية. ونشأت «نخب» جديدة مارست لاحقاً الدور نفسه الذي كان يمارسه «الطقم القديم» ولكن في ظل استمرار التشدق بشعارات الثورة والتحرير والاشتراكية... وطبعاً... الوحدة.

ايضاً كان ثمة تفاوت في زخم عملية التبلور والتقمص بين دولة واخرى تبعاً لظروفها الخاصة، والاسلوب الذي تفاعلت فيه النخب الحاكمة الجديدة مع قوى الماضي ومؤسساته. فلا أحد يزعم اليوم ان «برلمانيي» اليمن نسخة طبق الاصل عن «برلمانيي» لبنان، او ان تجربة احزاب مصر استنساخ لتجربة احزاب السودان.

حدثان في الواقع حفزّاني الى التطرق لهذا الموضوع، هما الانتخابات الفرعية المزمعة اليوم في منطقة المتن الشمالي في لبنان، والمطالبات المحمومة من قبل الولايات المتحدة واسرائيل ـ نعم اسرائيل !!! للسلطة الفلسطينية بالمباشرة في عملية تغيير ديمقراطي... يعد بالقضاء على الفساد والمحسوبية وغيرهما من الشرور... والعياذ بالله. وعن عمد ضربت صفحاً هذه المرة عن الخوض في الانتخابات الجزائرية والاستفتاء التونسي، بأمل العودة اليهما في وقت لاحق بإذن الله.

بما يخص الموضوع الفلسطيني، حضرت مع مئات الصحافيين والمهتمين خلال الاسبوع المنصرم ندوة خاصة دعت اليها صحيفة «الغارديان» في لندن طرفاها الوزير الفلسطيني ياسر عبد ربه والوزير الاسرائيلي السابق يوسي بيلين. وفي ظني انهما سيخسران فيما لو خاضا هذه الايام الانتخابات العامة في فلسطين او في اسرائيل. فالمجتمعان الفلسطيني والاسرائيلي في حالة استثنائية من الغضب والقلق لدرجة ان كثرة من الفلسطينيين ما عادت تجد الحل الناجع لجريمة الاحتلال الا عبر العمليات الفدائية او الاستشهادية، وكثرة من الاسرائيليين لا تجد ضمانة لوجودها الا تحت حاكم عسكري فاشي يفهم السياسة عصا غليظة وترويعاً و«إرهاباً» تحت ستار مكافحة الإرهاب. ومع ان المحاورَين احجما عن الخوض صراحة في المناخ الدولي السيئ المحيط بالنزاع العربي الاسرائيلي، وتحاشيا وضع اي لوم على التبني الاميركي الكامل لمواقف آرييل شارون، فإنهما تبرعا مطولاً بالاعتراف بوجود تقصير، كل بالنسبة الى جماعته. وتركّز ذلك على «التقصير في شرح الحقيقة كاملة» للشارعين الفلسطيني والاسرائيلي... وخصوصاً ما دار في اوسلو، وفي كامب ديفيد خلال لقاء عرفات ـ باراك. واعادني هذا الاعتراف المزدوج بنقص الديمقراطية في كل من فلسطين واسرائيل الى المفاوضات السرّية التي درج عليها الجانبان. فهذه العادة السيئة تبين في ما بعد انها خطيرة وقاتلة ايضاً. ذلك ان التفاوض تحت ستار من السرّية سيئ للفلسطينيين لأنهم الطرف الاضعف، وبالتالي فالرسالة التي توجهها هذه «السرّية» المشبوهة الى المواطن الفلسطيني العادي هي ان ثمة صفقة تطبخ خفية عنها وستفرض عليه لاحقاً كأمر واقع. اما كونها خطيرة وقاتلة، فنتيجتها باتت واضحة ليس فقط في خلق حالة فلسطينية من اليأس ولّدت عند كثيرين تبريراً عفوياً للعمليات الفدائية حتى ضد المدنيين الاسرائيليين. بل في خداع الشارع الاسرائيلي ايضاً حول طبيعة مطالب الفلسطينيين، وحول الدرجة التي بلغها اليأس عندهم حتى تساوى الموت والحياة عند شبابهم الاستشهاديين من الجنسين، ...وحول عبثية الرهان على الفاشية التي ستدمّر في نهاية المطاف المجتمع الاسرائيلي من الداخل.

وهنا نصل الى لبنان، حيث تخيّم «سحابة» سوداء اخرى على التجربة الديمقراطية. على الصعيد الشخصي يخجلني ان اقول انني لا اعرف من المتن الشمالي الا منطقته الساحلية. لكنني تابعت حياته السياسية منذ زمن بعيد ودرست تاريخه منذ تكوّنت زعاماته و«حزبياته». انتخابات المتن تبدو ظاهرياً اقرب الى المهزلة. وهذه الصورة لا تخالف الحقيقة كثيراً مع انها لا تحتصرها تماماً. فالصراع الفعلي، اذا كان للمراقب اعتماد تقديرات الجهات المتصارعة، محصور اليوم بين المرشحة ميرنا المر ابو شرف وعمها ـ نعم عمها ـ غبريال المر. والمقعد الذي تتنافس عليه السيدة ميرنا المحسوبة على «اهل الحكم» وعمها المحسوب على تيار «المعارضة» هو واحد من مقعدين ارثوذكسيين في الدائرة التي تطغى عليها المقاعد المارونية... اما المقعد الثاني فيحتله النائب الحالي ونائب رئيس الوزراء السابق ميشال المر.

ميشال المر؟! نعم والد السيدة ميرنا... وشقيق السيد غبريال!! ومن الذي سيشرف على الانتخابات... ويؤكد حياد الدولة في هذه المعركة الغريبة؟ انه وزير الداخلية الياس ميشال المر، شقيق السيدة ميرنا وابن شقيق مرشح «المعارضة» السيد غبريال! قد تقولون «سياسة عائلية»... ويا دار ما دخلك شر. غير ان القصة ابعد من قصة عائلة واحدة. فوزير الداخلية صهر رئيس الجمهورية العماد اميل لحود ـ ابن المتن ـ ووالد الوزير، اي ميشال المر، خاض الانتخابات النيابية في لائحة واحدة مع اميل اميل لحود ابن رئيس الجمهورية والنائب الراحل السابق البير مخيبر، ضد النائب نسيب لحود (ابن ابن عم الرئيس لحود). وفي معركة المتن الحالية ترشح ايضاً ضد ميرنا المر وغبريال المر مرشحان «عائليان» آخران هما غسان مخيبر ابن شقيق النائب الراحل، وجبران تويني الزوج السابق للسيدة ميرنا.

وسط كل هذا «الكرنفال الانتخابي» العائلي الحميم يُصدَم الناخب المتني المسكين بشعارات سياسية وايديولوجية مجلجلة.. تتراوح بين السيادة والتحرير، والعروبة والسلام الاهلي ومستقبل الحريات في البلد...

ضخامة هذه الشعارات تدعو الواحد الى التساؤل ...إذا كانت المعركة حقاً معركة مصيرية بهذا الشكل القاطع فكيف عجز الأخ عن إقناع اخيه بصوابية موقفه؟ واذا تعذّر الاقناع والتفاهم بين الاخوة والاقارب ..فكيف يأملون يا ترى بقدرتهم على إقناع الآخرين؟!