الليكود... بين الهضم والقضم

TT

ما زالت الذهنية العسكرية الطاغية على المؤسسة السياسية في اسرائيل ترفض الاعتراف بانه كلما داوت اسرائيل جرحا من جراح احتلالها للاراضي الفلسطينية... تفتحت لها جراح.

قبل الانتفاضة كان هاجس اسرائيل الاستراتيجي احتمال التعرض لهجوم عسكري عبر جبهتها الشرقية، فاجتهد مخططوها العسكريون لتداركه باشتراطهم،في مفاوضات كامب ديفيد، ربط الانسحاب من الضفة الغربية، بنشر قواتهم على طول مجرى نهر الاردن.

بعد الانتفاضة، تراجع هاجس الهجوم الخارجي الى المرتبة الثانية من اهتمامات المخططين العسكريين في اسرائيل ليحل «الارهاب» الداخلي محله كهاجس المرحلة، فكان اقتراح «السياج الامني» الحصيلة المعلنة لهذا التبدل المستجد على الاولويات الاستراتيجية الاسرائيلية.

ربما هي المرة الاولى في تاريخ التخطيط العسكري الاسرائيلي التي تتقدم فيها الاعتبارات السياسية على الحسابات المحض عسكرية في التصور الرسمي لـ «أمن» اسرائيل، فمجرد التفكير بسياج فاصل بين الشعبين اليهودي والفلسطيني ـ رغم كلفته الباهظة في ظل الاوضاع الاقتصادية المتردية حاليا ـ يشكل اعترافا، وإن غير مباشر، بفشل حلم السيطرة الاسرائيلية على الارض الفلسطينية والبدء باجراءات طلاق مع الفلسطينيين... ولو من طرف واحد.

ولكن، أن تحصر حكومة آرييل شارون حل مشكلة «أمن» اسرائيل بـ «سياج أمني» يفصلها عن الشعب الفلسطيني... قرار لا يعكس عبقرية عسكرية بقدر ما يعكس عودة «المجتمع اليهودي» الى التصرف بوحي عقدة «الغيتو» التي عاشها في اوروبا لغاية القرن العشرين... حتى في اسرائيل. ولكن السؤال يبقى: هل ردت متاعب الاستعمار الصهيوني لارض فلسطين وشعبها المجتمع الاسرائيلي الى ذهنية «الغيتو» أم أن صعوبة «هضم» الشعب الفلسطيني باتت تستوجب تصنيف ادراج «قضم» ارضه في خانة الضرورات الامنية بعد ان كانت، الى تاريخ اندلاع الانتفاضة الثانية، مصنفة في خانة الرسالة القومية ـ التوراتية؟ إذا كان اليمين الاسرائيلي يتخوف، منذ الان،ان يكون السياج الامني بداية تخل عن «يهودا» و«السامرة »،فقد يكون احد انجازات الانتفاضة «تقليص» طمع اسرائيل في ضم كامل الضفة الغربية وقطاع غزة الى عملية استيلاء بالقوة على اراض محاذية للسياج المقترح. ولكن ما تتجاهله حكومة شارون، حتى الان، هو ان الانتفاضة افرزت معادلة جديدة للتسوية السلمية المقترحة يمكن تلخيصها بـ«وطن يهودي مقابل وطن فلسطيني».فبقدر ما دفعت الانتفاضة الاسرائيليين الى التشدد في متطلبات امنهم، دفعت الفلسطينيين ايضا الى التشدد في مطلبهم لانسحاب كامل للقوات الاسرائيلية الى حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، من دون استبعاد بعض التعديلات الحدودية الطفيفة في اطار تبادل للاراضي في مناطق معينة.

شعار التفاوض، بعد الانتفاضة، سيكون :المطلب «الأمني» مقابل المطلب «القومي». وما كان ممكنا قبل الانتفاضة اصبح صعبا بعدها،ان لم يكن مستحيلا، فالتجمعات الاستيطانية الكبرى في قلب اراضي السلطة الفلسطينية المحتلة ـ والتي كانت في صلب محادثات «كامب ديفيد» وطاباـ فقدت اليوم «شرعيتها» الدولية،ومن شأن «الرؤية» المتداولة للتسوية السلمية ان تُفقدها مبررها الاستعماري ايضا.

باختصار، لا الاجواء الدولية المؤيدة لقيام «دولة فلسطينية قابلة للحياة»، ولا المشاعر الفلسطينية المطالبة بتسوية بمستوى تضحيات الانتفاضة، تسمحان باستمرار تمسك اسرائيل بمستوطنات مثل اريل ومعاليه ادوميم، ولا بالسيطرة الكاملة على القدس الشرقية. إلا أن المشكلة تبقى في أن ترجمة هذه التوقعات الى أمر واقع لا تزال رهينة انتخابات اسرائيلية هادئة يتغلب فيها تيار معسكر السلام على تيار الليكود.