لمن الأغنية؟ لمن النشيد؟ لمن الصوت؟

TT

جاءت «جون بايز» الى نيويورك هذه المرة وهي تدرك انها تغني عن مرحلة مضت، لقد تفرق المتظاهرون حملة الشموع المتشابكو الايدي منذ عقود. منهم من انصرف الى التجارة وجني الارباح ومنهم من ربى عائلة وارتاح، وأكثرهم تبنى نظرية تبديل النظام من الداخل.

ها هو بيل كلينتون الذي استوحى اسم وليدته من اغنية «تشيلسي مورننغ» ليصبح رئيسا للجمهورية في نفس الولايات المتحدة الاميركية وهيلاري رودهام تصبح عضوا في الكونغرس، بل انهم في كل مكان، قدامى المحاربين أولئك، من يوشكا فيشر في المانيا الى روبن كوك في بريطانيا وليونيل جوسبان في فرنسا يتقلدون المناصب الرسمية من أجل تحقيق الاهداف الاصلية بالطبع انما بالوسائل العملية المتاحة. فهذا خافيير سولانا المناضل العريق في مدريد يترأس حلف قوات الاطلسي ثم يصبح مفوضا اعلى للسياسة الخارجية الاوروبية. كلهم يعرف على الاقل اغنية واحدة لها من ايام التجمع في الساحات العامة هتافا لعالم افضل.

هذه المرة تحلق حولها المئات من الذين ما زالوا يذكرونها. وغنت لهم، ثم انشدت بعض الاغاني القديمة عن الضحايا الذين لا يذكر اسماءهم احد وأولئك الذين اوقفوا القبضة الحديدية باليد الموحدة «حلمت انني رأيت صديقي حياً يمشي بين الناس. قلت له انك ميت منذ سنوات فأجاب انا لم أمت، انني احيا مع كل من يرفع الرأس ويحتضن الأمل». وترفقت بالذين تفرقوا أو افترقوا أو اضطروا الى الخيار بين المجوهرات والجوهر، «بين الغبار والياقوت».

كانت تعرف ان هذه الايام ليست لها وان هذا زمن الكمائن، حتى رفيقها القديم بوب ديلان الذي شاركها قيادة التمرد الغنائي بشعره المنفوش وقميصه المهلهل وقيثارته الجوالة جاء أخيراً جاهزاً مجهزاً برداء السموكنغ ليتسلم جائزة تقديرية تقليدية ويحاول انشاد اغنية مطلعها: «نامي، سيدتي، نامي».

ولذلك قضت ليلة واحدة في نيويورك وغادرت. في اليوم التالي خطر لي ان استمع الى احدى مجموعاتها. ذهبت الى منطقة «واشنطن سكوير» قرب جامعة نيويورك التي اطلقتها وتوجتها ملكة الاجيال الصاعدة. ودخلت متجر الموسيقى الكبير في الشارع الثامن الذي لم يكن يسمح بغير ذلك النوع من الموسيقى. لم تعرف البائعة ما المطلوب ونادت على المدير الشاب الذي تساءل: «بايز؟.. هذا اسم اسباني ربما تجده تحت الموسيقى اللاتينية» ثم نادى على مساعدة بورتوريكية لكي تتفاهم معي. سألتني اذا كنت استطيع الاشارة الى مقطع ولو صغير من اغنيته لكي تقتفي آثارها في الكومبيوتر. ترددت، وبعد الحاح قلت: «اين ذهبت تلك الزهور. تناثرت مع الشباب الراحل». تصورت الفتاة انني اشكو لها واقع الحال. فربتت على يدي وشرحت انها تريد كلمات محددة لكي تعرف اين تبحث. فرددت: «لكل شيء اوان ولكل حدث مكان، هناك موسم للزرع وموسم للحصاد. مناسبة للضحك ومناسبة للبكاء. مكان للعناق ومكان للتباعد. وقت لالقاء الحجر الأول ووقت لجمع الأحجار معاً. موقع للجرح وموقع للمواساة. زمن للحرب وزمن للسلام. مرحلة تبدأ ومرحلة تنتهي. فلكل شيء أوان».

استمعت الشابة باهتمام ثم سألت:

لمن الأغنية؟

***

* لمن النشيد؟

* كان هناك خلل ما بين المنشد والنشيد. الموضوع اقرب ما يكون الى قلوب العرب. والمطرب ابعد ما يكون عن الموضوع.

انطلق يعلن «انا يا قدس فداك»، ثم التفت حوله كأنه فوجئ بالأمر. ويرد الكورس والكومبارس «أنا، أنا، أنا، أنا». الواضح ان علاقته بالقدس مثل علاقته بالنشيد. فهو مختطف أصلاً مما أنشده الفنان الكبير محمد عبد الوهاب في معركة السويس: «انا يا مصر فداك»، الكلمات بأكملها لم تتغير استبدلت فقط كلمة القدس بمصر، وان مكان المطرب الجديد لم يستقر بين «فداك» و«فتاك»، مرة هذه ومرة تلك. وفي كل مرة تردد خلفه المجموعة الموزعة «أنا، أنا، أنا، أنا».

القصيدة الأصلية كادت تحدث ازمة عند التأليف. في تلك الفترة كان سفير لبنان لدى مصر الشاعر خليل تقي الدين يتعايش مع اجواء السياسة والادب ويتسامر، مثل الملحق الصحفي في السفارة السورية يومها الشاعر نزار قباني، مع اهل الفكر والقلم بين مقاهي فنادق سميراميس وشبرد. وقد استوحى من الهجوم الثلاثي على بورسعيد قصيدة حماسية مطلعها: «انا يا مصر فتاك، بيدي احمي حماك، قد تعاهدنا انا والنيل ان نفدي ثراك، بدمي ارويك يا مصر كما النيل رواك». ونشرت المقاطع في مجلة الصياد البيروتية. بعد فترة قصيرة انشد الاستاذ عبد الوهاب كلمات شبيهة في المطلع على الاقل، من نظم الشاعر الرقيق والعاشق الدائم الاستاذ الكبير كامل الشناوي وهو بالمناسبة كاتب كلمات أغنية «لا تكذبي».

وكادت تحدث معركة جانبية بين القاهرة وبيروت، صحيح ان السفير دبلوماسي محدود القدرة على الكلام والاحتجاج، الا ان له مكانة خاصة في قلب رابطة اهل القلم اللبنانيين. ثم ان عائلة تقي الدين من اعيان الجبل وهم نخبة من الاخوة، كل واحد منهم شيخ مبارز في ميدانه الخاص. الشيخ بهيج في المحاماة، والشيخ سعيد في عمادة الحزب القومي الاجتماعي بالاضافة الى قلم ولا ألذع، والشيخ منير في مديرية وزارة الدفاع. وتدخل الاستاذ سعيد فريحة مع صديقه الاستاذ مصطفى امين لتهدئة الموقف. وانطلق النشيد من كل الاذاعات يهتف، «انا يا مصر فداك. ودمي ملء ثراك». واكتمل النشيد بما كتبه الاستاذ الشناوي الى ان وقع التبديل الاخير في الزمان والمكان.

لقد كان الفنانون والفنانات من مصر في طليعة الصفوف خلال الازمات المصيرية. ان طريقة تقديم نشيد «كلنا بنقول ارضنا»، مثلا، من افضل ما اذيع خلال المحنة الاخيرة للشعب الفلسطيني. ورافقته عشرات الاناشيد الناجحة بالعفوية والفن الصادق. ومن المؤسف ان تحاول قلة قليلة التلاعب بأقدس مشاعر الناس.

فللنشيد مغزى. وللفداء حرمة. وللقدس ولمصر، موقع لا يستبدل.

* لمن الصوت؟

* يتجادل الفلاسفة حول العلاقة بين الصوت والصدى ويتبارى السياسيون في ايصال آرائهم عبر اصوات أخرى. قديماً قيل اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. كان ذلك بعد ان بيع الرفاق بثلاثين من الفضة، وقبل ان تتدنى اسعار المعادن وترتفع اسعار العملات والعمولات.

من يسمع الصوت؟ من يتكلم أصلا؟ في الكتب القديمة ان ولدا طامعا في الميراث، تخفى في زي اخيه الاكبر وطلب من والده الاعشى ان يوليه الامر. تحسس الأب الثوب وسمع المطلب وقال مترددا: الثوب ثوب عيسو والصوت صوت يعقوب.

مع التقدم الالكتروني درجت موضة بين المطربين ان يحركوا شفاههم فقط بينما يتولى التسجيل القيام بالمقام. اكثرهم على الاقل يتبارى مع صوته، والبعض يتماشى مع «صوت سيده» وهي شركة اسطوانات كبرى، وهناك من يفتح فمه بينما الصوت للغير. وكان قد اشتهر فريق اسمه «نيللي فانيللي» في موسيقى الروك قبل 5 سنوات الى ان كشف مطرب حانق لم يقبض الموعود انه هو صاحب الصوت والصدى معاً.

هناك من الاصوات الثابت والمتحول، وهناك المتجول والنقال، اعذبها يسلب الالباب بلا تكلف، وانكرها يزعق عبر الاثير كأنه مالئ الدنيا وشاغل الناس.

عندما كان الملهوف ينادي «يا سامعين الصوت»، كان يسارع النشامى الى النجدة. اصبح النداء لا يصل الى الآذان الا عبر إحدى اغاني فيروز.

قيل في ادب الاغريق انه اذا غضبت الآلهة على قوم هرولوا يتكلمون بأصوات متنافرة وتوسلوا بلغات مختلفة، والمطلوب واحد. في معمعة الوسائط المتكاثرة على ابناء المنطقة العربية من كل حدب وصوب، وقبل ان يتقاتل الاخوة في محاولات مبعثرة للرد أو التحدي أو الاسترضاء، ربما من الحكمة أولاً معرفة لمن الصوت. وبعد ذلك يمكن التعامل مع الصدى.