اللاعب الروسي والأوبك

TT

في الوقت الذي تتوالى فيه تصريحات وزراء النفط في منظمة أوبك انهم لا يعتزمون تغيير سقف الانتاج الحالي عند لقائهم في اجتماعهم الدوري في فيينا آخر هذا الشهر، فإن روسيا أعلنت بوضوح انها سترفع القيود عن صادراتها، وبالتالي ستضيف الى معدل الامدادات العالمية 150 ألف برميل يوميا بنهاية هذا الشهر، يفترض ان روسيا حجبتها عن السوق في اطار تعاونها مع دول أوبك دعما للأسعار.

واستعمل كلمة يفترض عن قصد، لأنه ليس هناك تأكيد حاسم، أن روسيا قطعت بالفعل هذه الكمية من الامدادات رغم اعلانها الرسمي بذلك، وهي ليست ملامة بالطبع، فاذا كانت دول أوبك نفسها تتجاوز السقف الذي تحدده لنفسها بقرابة مليون برميل يوميا، فإن المنتجين الآخرين خارجها لن يكونوا أحرص منها على التقيد بقرارات خفض الأنتاج.

تبدو الخطوة الروسية متسقة مع مصالحها النفطية والسياسية. فما دامت الأسعار تتحرك في نطاق يقارب 25 دولارا للبرميل فإنها ليست تحت ضغط للتجاوب مع دعوات خفض الانتاج. ومعلوم ان الميزانية الحالية الروسية بنيت على أساس أن يتراوح سعر البرميل بين 18 و23 دولاراً.

في مطلع العام وعندما كانت أوضاع السوق النفطية تنذر باشتعال حرب أسعار بين المنتجين، ما لم يوافق المنتجون خارج أوبك وروسيا تحديدا على خفض انتاجهم، كان من مصلحة روسيا التجاوب مع أوبك رغم اعتراض الشركات النفطية الروسية على ذلك.

هذه المرة يبدو ان لموسكو قراءة مختلفة. فالانتعاش في الاقتصادات الغربية وخاصة الولايات المتحدة بدأ في التحرك، وهناك طلب غربي وأميركي تحديدا للدول المنتجة للنفط ان تخفف من قيودها على الانتاج، كي لا يتأثر الانتعاش المنتظر سلبيا، ولهذا تبدو الخطوة الروسية وكأنها استجابة لهذا الطلب وبناء لصورة الدولة المنتجة للنفط التي تلبي احتياجات المستهلكين ويمكن الاعتماد عليها في هذا الشأن.

صورة روسيا الحالية تتجاوز الجانب النفطي الى لعب دور على المسرح السياسي بالتراضي مع الغرب وخاصة واشنطون. ويظهر ذلك في الموافقة على الصيغة المعدلة للعقوبات على العراق وبموجبها تم التمديد لبرنامج النفط مقابل الغذاء أواخر الشهر الماضي، كما جاءت قمة دول حلف الأطلسي لتضم روسيا وتصبح الدولة الرقم عشرين في عضوية الحلف مؤشرا على هذا التحول، وكذلك الدور الذي تسعى موسكو للعبه على المستوى العالمي بوساطتها بين الهند وباكستان والقمة التي تعمل على عقدها بين البلدين، وكأنها تستعيد أيام الاتحاد السوفياتي دولة عظمى، لكن برعاية أمريكية هذه المرة.

يبقى الجانب النفطي والرغبة المتبادلة بين روسيا والغرب على قيام الأولى بلعب دور يعمل على اجهاض إن لم نقل الحلول في مرتبة الدولة الأولى نفطيا التي يمكن للغرب أن يعتمد عليها لسد النقص في الامدادات ولبعدها عن متاعب منتجي النفط في منطقة الشرق الأوسط، ولقربها الثقافي والحضاري من الغرب.

وروسيا تملك بالفعل بعض المؤهلات التي يمكن استخدامها لهذا الدور. فهي صاحبة أكبر احتياطي للغاز الطبيعي، وتزود أوروبا بنصف احتياجاتها منه، وهي ثاني أكبر مصدر للنفط الخام بعد السعودية، كما انها على طريق تحقيق انفتاح أكبر على الشركات الغربية التي تملك التقنية والاستثمارات اللازمة، وهو المسعى الذي يسانده الرئيس فلاديمير بوتين بدعم من رصيفه الأمريكي جورج بوش الذي دعا شركات بلاده للعمل يدا بيد مع الروس لتحقيق شراكة نفطية.

على ان الصناعة النفطية الروسية تعاني في الوقت الحالي من متاعب تجعل سقفها محدودا في المستقبل القريب على الأقل. فهناك أولا ضعف الاحتياطي النفطي المؤكد، إذ يقل عن 50 مليار برميل، أي أقل من الاحتياطي الموجود في حقل الغوار الضخم في السعودية، وهو في النهاية أكبر حقل في العالم، أنتج حتى الآن ما يقارب كل الاحتياطي المؤكد من النفط الروسي وبقي فيه قرابة مرة ونصف مرة مما يوجد لديها.

وتكتسب هذه النقطة أهميتها كون معدلات الانتاج في روسيا تتجاوز معدلات الاكتشافات الحديثة، الأمر الذي يخل بالمعادلة ويجعل في الامكان تراجع كميات الانتاج مع تصاعد الاستهلاك بسبب الرغبة الروسية والغربية عموما في ابراز النفط الروسي بديلا عن نفط منطقة الشرق الأوسط.

ثم هناك محدودية منافذ التصدير، ومرور بعضها بدول أخرى، بكل ما في ذلك من مخاطر سياسية وأمنية وزيادة في التكلفة بسبب رسوم العبور التي تفرضها الدول التي تمر عبرها خطوط الأنابيب كما في حالة أوكرانيا وجمهوريات البلطيق الثلاث. ووعيا بهذه العقبات تخطط روسيا لبناء عدة خطوط أنابيب بالاتفاق مع الدول التي ستصدر اليها كما في حال الصين، ومع ان بعض هذه الخطط دخل مرحلة التنفيذ الفعلي ولو جزئيا، الا ان البعض الآخر لا يزال ينتظر حسم بعض الخيارات السياسية، الجغرافية والتمويلية كما في حال الصين التي لا تفضل أن يمر خط الأنابيب القادم اليها حاملا النفط الروسي عبر أوكرانيا.

ثم ان جانب النقل هذا تحديدا لا يزال يعاني من هيمنة العقلية الحكومية البيروقراطية، نسبة لان شركة «ترانسنفط» لا تزال تحتكر قطاع خطوط الأنابيب بناء وتشغيلا. وبصورة ما ينسحب هذا الوضع وبصورة عامة على الصناعة النفطية الروسية التي تعرضت الى عمليات تخصيص واسعة النطاق، وقيام شركات عامة تتداول أسهمها في السوق، لكنها عمليا لا تزال تدار بنفس الصلات القديمة مع جهاز الدولة والحرص على أرضائه بدلا من الاهتمام بمصالح حملة الأسهم والعمل بمقتضيات وعقلية السوق.

فعملية الانتقال من الهيمنة الحكومية تمت بطريقة مباغتة لم تسمح بتطور هادئ، الأمر الذي فتح الباب أمام انهيارات أبرز ملامحها عقلية المافيا التي سيطرت على روسيا سياسيا واقتصاديا معظم العقد الماضي وإبان حكم بوريس يلتسن. وهو ما انسحب على أداء الشركات النفطية التي في ما يبدو لا ترغب حقيقة في دخول الشركات الغربية شريكا لها كامل الصلاحيات له رأيه في القرارت الاستراتيجية الخاصة بالانتاج والتصدير وكيفية ادارة الشركة، وانما ترغب في ان تراها حاملة لبعض أسهمها المتداولة فقط، وهي في هذا لا تختلف كثيرا عن بعض الشركات النفطية الوطنية في دول أوبك، التي لا تزال تجرجر ارجلها امام الانفتاح على الأستثمارات الأجنبية، وهو الوضع المرشح للتغير بسبب توفر الأرادة السياسية من قبل بوتين.

المهم في هذا كله ان روسيا التي برزت لاعبا مهما على الساحة النفطية، وتجاوبها مع أوبك، يبقى رقما مهما في ما يتعلق بقرارات دعم الأسعار، تدير تحركاتها وفق حسابات مصلحة ذاتية في المقام الأول وبالتفاهم مع واشنطون والغرب عموما في المقام الثاني، وهو ما يزيد من الضغط على أوبك لتجد لها شريكا استراتيجيا بين المنتجين من خارجها ليساعدها على ادارة السوق النفطية.