المقومات الاقتصادية للدولة الفلسطينية .. محاولة استشرافية

TT

حالما يسعى الباحث إلى استشراف المقومات الاقتصادية للضفة الغربية وقطاع غزة، بهدف إطلاق أحكام قيمية حول أهليتها لأن تغدو دولة، يجد نفسه فجأة أسير مفارقة جدّية ذات طبيعة مركّبة، ذلك أن الموضوع، محل البحث، غامض ودقيق في آن: غامض، لصعوبة إيضاح كلمة «استشراف»، فالأسس التي تساعد على سبر آفاق المستقبل واستكناه مدلولاته تحتاج، هي ذاتها، إلى مزيد من التحديد، ودقيق، لأنه يصعب على الباحث، وهو يتصدى لهذا الموضوع، أن لا يخضع، كذلك، للتضليل بنسب متفاوتة، خاصة أن أدوات البحث التي تؤثر فيه تنتمي، بصورة أو بأخرى، إلى نوعية مغايرة من الأسئلة التي تطرحها، ومن الفروض التي تستند إليها.

ورغم أننا لا نريد، هنا، التسرّع في الحكم على المواصفات المعتمدة لاقتصاد الدولة الفلسطينية وعلى الاشتراطات المتصلة بهوية المقومات وتوفرها وبالأهداف المتوخاة من استخدامها، قد يفيد في هذا التقديم إبداء بعض الملاحظات العابرة:

في مقدم ما يجدر التنبيه إليه، هو أننا حين نحاول استشراف المقومات الاقتصادية الضرورية لانطلاق نشاط اقتصادي متين في دولة فلسطينية مستقلة، ندرك، بالقوة، أنه ليس عالماً آخر لا صلة له بقضايانا الراهنة، وليس هرباً من الواقع وملابساته بحثاً عن «فردوس» مفقود أو سباحة في «اليوتوبيا»، بل انه، بالفعل، محصلة ما نقوم به، منذ الآن، وحتى ذلك التاريخ. وفي إطار هذه المحددات، فإن أي سيناريوهات توضع اليوم ترتهن، بشكل أو بآخر، بدرجة وفاية المقومات وبمدى قدرة اقتصاد الدولة الفلسطينية المستقلة على تقديم أداء اقتصادي مرضٍ لأغراض الدولة والمجتمع. والأمر الذي لا مِراء فيه، هو أن أسوأ احتمالات المستقبل، هي تلك التي تنتج عن ردة الفعل السلبية في محاولة صنعه.

وتزداد الحاجة إلى مزيد من الدراسات المستقبلية للمقومات الاقتصادية للدولة الفلسطينية بسبب موقعها الجغرافي الذي يفرض قيوداً على خياراتها إلى حدّ بعيد. ففي الجوار، هناك نظام إسرائيلي يفرض سياساته على الدولة الوليدة، على الرغم من استقلالها السياسي واستكمالها لعناصر السيادة الأخرى من راية وتشريع وأختام وما شابه ذلك. ولا مدعاة للإطالة، هنا، في الإسهاب في تلك الآثار التي من بينها امتلاك إسرائيل مجتمعاً عسكرياً صناعياً متقدماً قد تجد الدولة الفتية، من حيث تدري أو لا تدري، أنها مرتبطة بنظام تعمل آلياته، تلقائياً، ضد مصلحتها، نظام من شأنه أن تتزايد رغبته في استغلاله لمواردها الطبيعية والبشرية.

في هذا الإطار، تأتي حاجتنا إلى استشراف المقومات المستقبلية لاقتصاد الدولة الفلسطينية ببدائله. ولعل من مزاياه، اختيار الأنسب والمرغوب فيه من هذه البدائل التي من دونها تبقى «محاولات» قضايا المصير الفلسطيني حبيسة إطار التمنيات وقائمة، في إقناعها، على التجريد المنطقي. ومن مزاياه، أيضاً، خصوصاً في الحالة الفلسطينية، أنه يمكن أن يسمو على قيود الحاضر ومحدداته الذي تغذّيه، بصورة مستمرة، حساسيات النظرة قصيرة الأجل.

الموارد والإمكانات: الصورة الحالية في سعينا إلى استشراف المقومات الاقتصادية للدولة الفلسطينية، فإننا بحاجة إلى مزيد من التحديد والتوصيف، وهو ما سوف يعيننا في عملية الاستشراف ذاتها، لأنه سوف يحملنا، على الأقل، إلى تعيين العمق الزمني الماضي الذي سوف نتخذه منطلقاً أو أساساً للمقارنة المستقبلية وإلى تعيين الأفق الزمني المستقبلي الذي سوف يكون مدار اهتمامنا.

ولن نجافي الحقيقة، إذا قلنا إن هناك صعوبات ذات شأن في استشراف المقومات الاقتصادية المستقبلية على أساس أرضية الماضي الذي سوف نعيّن حدوده: فهناك صعوبات ملموسة في رصد التبدلات النوعية العميقة خلال الحقبة الماضية، وبالتحديد منذ العام 1967، حين تولّت إسرائيل مهمة السيطرة على مقدرات الضفة الغربية وقطاع غزة، وتولي السلطة الوطنية الفلسطينية هذه المهمة منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو العام 1993، مما كانت لهما آثار عميقة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وإن بنسب متفاوتة. ولا ريب في أن هذه التبدلات التي ولدت في أحشاء الماضي، سوف تعكس نفسها على المستقبل بصورة مؤثرة. وهناك، أيضاً، صعوبة الحصول على المعطيات ذات العلاقة بالحاضر التي لا يمكن، بحال، الاعتماد عليها كثيراً أو أنها غير تامة، إضافة إلى أن المؤشرات السوسيو ـ اقتصادية، التي تتعلق بالقطاعات الاجتماعية والعلمية والثقافية، يسودها التبعثر وعدم التعاضد التراكمي. ومن هنا، فإن هذا التوصيف وكذا المعطيات الكمية المصاحبة له تعاني، بالضرورة، من هذه التحديدات.

ـ الموارد البشرية:

ان الموارد البشرية في أي مجتمع، هي في خاتمة المطاف، المورد الأول والأهم، ويقرر اقتصادي عربي أنه يمكن اعتبار التخلف على أنه حالة مجتمعية تتسم بإهدار الطاقات الكامنة في البشر، على حين ينطوي التقدم على توظيف أفضل لتلك الطاقات. (1) أ ـ السكان: يرتبط حجم السكان الإجمالي، عادة، بالمتغيرات الديمغرافية السائدة فيه، وأهمها النمو الطبيعي للسكان، وهو عبارة عن الفرق بين الولادات والوفيات وصافي الهجرة الخارجية. أما معدل النمو السكاني، فإنه المحصلة النهائية لهاتين المجموعتين من العوامل، منسوبة إلى الحجم الإجمالي للسكان خلال فترة زمنية محددة. (2) تتميز الضفة الغربية وقطاع غزة بوفرة نسبية في عدد السكان، ويتزايدون بمعدلات مرتفعة نسبياً. فقد ارتفع عدد سكان الضفة والقطاع للفترة ما بين 1987 و2001 من 1401800 نسمة إلى 3361000 نسمة، أي بزيادة مطلقة مقدارها 1959200 نسمة، أو ما يزيد عن ضعفي عدد السكان. إلا أن هذه النسبة لا تشمل القدس الشرقية التي ارتفع عدد سكانها من 114.8 ألف نسمة في العام 1980 إلى نحو 215 ألف نسمة في العام 1999. (3) وتراوح معدل الزيادة السنوية للسكان في الضفة خلال 1987 ـ 1999، ما بين 2.5 بالمائة لعام 1987، و2.7 بالمائة لعام 1999. أما في القطاع، فقد تراوحت النسبة ما بين 3.4 بالمائة لعام 1986، فيما كان معدل النمو السنوي بين 1997 ـ 1999، حوالي 3 بالمائة في الضفة وأكثر من 3 بالمائة في القطاع. (4) وفي ما يتعلق بالتركيب العمري للسكان، يتبين من تحليل المعطيات الرقمية المتوافرة، ان الهرم السكاني للضفة الغربية وقطاع غزة يعكس مجتمعاً فتياً، إذ يلاحظ وجود نسبة كبيرة من السكان في سن الـ 14 وما دون، والتي بلغت في العام 1997، نحو 45 بالمائة في الضفة و50.2 بالمائة في القطاع، في حين بلغت نسبة فئة العمر بين 15 ـ 44 عاماً في الضفة والقطاع حوالي 40 بالمائة لكلتا المنطقتين (5). ومن المعلوم أن وجود نسبة عالية من السكان في سن ما بين 15 و44 عاماً، يشير بوضوح إلى وجود معدل مرتفع للولادات في السنوات المقبلة. ونتيجة لهذا المعدل المرتفع للولادات يتوقع، طبقاً لإسقاطات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أن يربو عدد سكان الضفة والقطاع على ستة ملايين نسمة، في العام 2021. (6) ب ـ قوة العمل: ازداد حجم قوة العمل في الضفة، خلال 1985 ـ 2001، من 159200 عامل في العام 1985، إلى 494000 عامل في العام 2001، أي بزيادة مطلقة مقدارها 334800 عامل، أو بمعدل 67.7 بالمائة. وفي قطاع غزة، ارتفعت القوة العاملة من 92000 عامل في العام 1985، إلى 225000 عامل في العام 2001، أي بزيادة مطلقة بلغت 133000 عامل، أو بمعدل 59.1 بالمائة. هكذا يتضح أن نسبة القوى العاملة إلى مجموع السكان ما زالت متدنية، فقد تراوحت في الضفة، خلال 1987 ـ 2001، بين 20.2 بالمائة في العام 1987 و25.6 بالمائة في العام 2001، أما في القطاع، فقد تراوحت ما بين 17.8 في العام 1987 و23.5 في العام 2001. (7) ويمكن، بمزيد من التحليل لتركيب قوة العمل، أن نخرج بمؤشرات عامة عن معدل الإعالة في الضفة والقطاع، حيث تشير المعطيات الرقمية إلى ارتفاع معدلها، الذي تراوح، خلال الفترة السابقة ذاتها، في الضفة ما بين 5 و16.3 شخص، وفي القطاع ما بين 6.7 و15.6 شخص، وهو معدل مرتفع ويمثل عبئاً على كاهل القوى المنتجة من السكان، كما يمثل خامة سكانية تخلق العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.

ويلاحظ في توزيع القوى العاملة، في الضفة والقطاع، أن معدل مشاركة قوة العمل في كلتا المنطقتين، تكاد تصل إلى 39.1 بالمائة. والواقع ان الوضع السياسي والاقتصادي الاستثنائي لكلا المنطقتين أثر ولا شك في مدى مشاركة القوة العاملة الفعلية وسمتها. ففي وضع متسم بالقيود القانونية وكثرة حالات الإغلاق، من شأنه أن يؤثر سلباً على الاقتصاد المحلي الفلسطيني وبالتالي على فرص العمل المتاحة. وكان الدمج بالاقتصاد والبنية التحتية الإسرائيليين، الذي جرى خلال أعوام الاحتلال، قد غيّر بشكل جذري أسواق العمل في الأراضي الفلسطينية.

كما يلاحظ في توزيع القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية، صغر حجم القوى العاملة الشابة في سن 21 ـ 30 عاما، إذ لا تتعدى نسبتها الـ 18 بالمائة، بينما تتركز أعمار القوى العاملة بين 31 و60 عاما، فهناك 32.5 بالمائة تتراوح أعمارهم ما بين 31 و45 عاما، و35.4 بالمائة من القوى العاملة تتراوح أعمارهم ما بين 36 و60 عاما. اضافة إلى ذلك، هناك 14.2 بالمائة من العاملين الذين تجاوزت أعمارهم الـ 60 عاما. وتشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إلى أن مشاركة المرأة في قوة العمل بقيت منخفضة، ولم تتجاوز الـ 10.9 بالمائة، مقارنة مع نسبة مشاركة الرجل التي بلغت، في المتوسط 89 بالمائة من قوة العمل. (8) الأرقام خادعة، في جانب، لأنها أرقام، بمعنى آخر، لأنها لا تأخذ في عين الاعتبار كل الباقي. وكل الباقي، في أحايين كثيرة، هو الحاسم. وهذه بعض عناصر ذلك الباقي: لقد هبط عدد العاملين في الضفة الغربية إلى 65.9 بالمائة من إجمالي قوة العمل في العام 2001، والاتجاه ذاته كان سائداً في قطاع غزة، حيث هبط عدد العاملين إلى نحو 52.2 بالمائة من إجمالي قوة العمل في العام ذاته. (9) الأرقام، إذاً، مفيدة لا لذاتها، بل لأنها تصحح الوهم وتضع حدوداً للخيال. فإذا نظرنا إلى توزيع العاملين في الضفة والقطاع، حسب التصنيف السائد للقطاعات الاقتصادية، فإننا نجد أن قطاع الزراعة يشغل ما نسبته 12.1 بالمائة، بينما تشغل الصناعة 13.5 بالمائة، والبناء والتشييد 14.6 بالمائة، وقطاع الخدمات 34.6 بالمائة. (10) ج ـ الإطار الاجتماعي: لا تكتمل صورة الأوضاع السكانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا بالإشارة إلى الإنجاز الكمي الملموس في تزايد عدد الطلاب في المدارس والكليات الأهلية والجامعات، وارتباط ذلك التزايد بسوق العمالة.

تفيد معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن ثمة 26110 مدارس في الأراضي الفلسطينية، انخرط فيها نحو 942942 طالباً للعام الدراسي 1999 / 2000. وبلغ عدد الجامعات التي تقدم شهادات جامعية معترفاً بها ثماني جامعات، ست منها في الضفة الغربية واثنتان في قطاع غزة، بلغ عدد طلابها 66050 طالباً، اضافة إلى خمس كليات أهلية بلغ عدد طلابها 5157 طالباً. وقد تخرج نحو 8380 طالباً في الجامعات للعام الدراسي 1998 / 1999، اضافة إلى نحو 1780 طالباً تخرجوا في الكليات الأهلية. هذا التدفق في عدد الخريجين، انعكس على حجم القوى العاملة التي تحمل مؤهلاً فنياً، كالدبلوم المتوسط أو مؤهلاً جامعياً، حيث بلغت نسبتها بين القوى العاملة الإجمالية، في الضفة والقطاع، حوالي 14 بالمائة. (11) بيد أن البيانات المتوفرة لا تقدم دليلاً على حدوث تقدم ملموس في مجال الخدمات الصحية من الناحية الكمية. فقد ازداد عدد المستشفيات والمصحات الطبية زيادة طفيفة منذ العام 1967، وبلغت نحو 57 مستشفى ومصحة طبية، كما شهدت الخدمات الصحية تزايداً ملحوظاً في عدد الأسرّة في المستشفيات في العام 1999، وبلغت نحو 3850 سريراً (12). إلا أن ارتفاع مستوى المعيشة للسكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، كنتيجة مباشرة للزيادات في الدخول النقدية، أسهم نسبياً في تحسين الأوضاع الصحية لسكان هذه المناطق، والذي يعبّر عنه، عادة، في تدني نسبة الوفيات عند الأطفال، وفي معدل استهلاك الفرد من الوحدات الحرارية، حيث بلغت نسبة الوفيات عند الأطفال نحو 28.3 بالألف العام 1999، وهي أدنى بكثير من مستواها في بعض الدول العربية المجاورة، كما تطور معدل نصيب الفرد اليومي من السعرات الحرارية والاستهلاك الفردي من البروتين والدهون في الضفة والقطاع خلال الفترة 1997 ـ 1999 بالمقارنة مع العام 1985. (13)

* أكاديمي عراقي مقيم في فيينا 1 ـ نادر فرجاني، هدر الامكانية: بحث في مدى تقدم الشعب العربي نحو غاياته، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1980، ص 17.

2 ـ Central Bureau of Statistics, Statistical Abstract of Israel, 1980, p. 705.

3 ـ PCBS (palestinian Central Bureau of Statistics, Ramallah, West Bank, 1999.

ومن أجل تحليل مفيد للتركيب الديمغرافي لفلسطينيي القدس الشرقية، انظر على وجه الخصوص كتاب: زهير المخ، المستقبل الاقتصادي للقدس: محاولة استشرافية، (قيد الطبع).

4 ـ PCBS, op. cit.

5 ـ المصدر نفسه.

6 ـ المصدر نفسه.

7 ـ بالنسبة للعام 1987، انظر:

Central Bureau of Statistics, Statistical Abstract of Israel, 1988.

وبالنسبة للعام 2001، انظر:

PCBS (Palestinian Central Bureau of Statistics, Ramallah, West Bank, 2001.

8 ـ PCBS (Palestinian Central Bureau of Statistics, Ramallah, West Bank, 2001.

9 ـ المصدر نفسه.

10 ـ المصدر نفسه.

11 ـ المصدر نفسه.

12 ـ PCBS (Palestinian Central Bureau of Statistics, Ramallah, West Bank, 1999.

13 ـ المصدر نفسه.