لماذا تراجع المثقفون الإسلاميون عن بيانهم؟

TT

هناك ظاهرة لافتة يعاني منها القارىء للمشهد الثقافي السعودي، وهي غياب الدراسات التحليلية للظواهر الثقافية التي مر بها المجتمع.

فحتى الآن، لا توجد دراسات موسعة عن مسيرة أي تيار ثقافي في السعودية، سواء كانت دراسات تاريخية موثقة تبحث عن بدايات ظهور تيار معين ورموزه وانتاجه الثقافي، أو تحليلية ناقدة تتحدث عن أفكاره ومصادرها وتأثيره في الواقع وتأثره به.

وتكاد معرفة المثقفين السعوديين بالتيارات المخالفة لتوجههم الفكري، تقتصر على العموميات، مما انتج قولبة كل تيار للتيار المخالف له في قالب واحد يشمل كل اطياف التنوع الفكري في الجزئيات أو المنهج الذي يزخر به التيار المخالف، ولعل هذا ما يفسر الصدمة التي أصابت بعض المثقفين من غير أصحاب التوجه الإسلامي، وخاصة ممن وقع على بيان المثقفين المسمى «على أي اساس نتعايش»، بعد قراءتهم لبيان التراجع الذي أصدره القائمون على البيان، وهو بيان وضح بعض النقاط التي فهمت خطأ في البيان الأول كمسألة الولاء والبراء، ومسألة عدم اعتبار القلة والكثرة في تطبيق الشريعة، وتراجع عن عدد من المسائل، كمسألة الموقف من أحداث سبتمبر ومرتكبيها، ومسألة العلاقة مع الآخر، فقد قامت، في البيان الأول على العدل، وتجنب الصراع، والدعوة للحوار، أما في بيان التراجع فتقوم على الجهاد وفرض الجزية، ومسألة التكريم الإلهي للإنسان بغض النظر عن دينه كما في البيان الأول وقصرها في بيان التراجع على المسلم، والموقف من الدعوة الى السلام العالمي وترك الحروب والصراعات. فما الذي دفع القائمين على البيان لإعلان تراجعهم عن كثير مما جاء في بيانهم؟

الاجابة على هذا التساؤل تستلزم قراءة سريعة لبعض جوانب المشهد الثقافي للتيار الاسلامي الجماهيري، فهناك فكران اسلاميان لهما حضور جماهيري، وهما التيار السلفي، بشقيه الجهادي والعلمي، والتيار الصحوي الحركي، فالتيار السلفي يعنى بطلب العلم الشرعي، ويطرح رؤيته الفكرية بشكل قاطع، وغالب اطروحات هذا التيار تندرج ضمن ثقافة الرد على المخالف، والخطاب الصحوي اكثر انفتاحا على المخالف، واهتماما بقضايا العصر ومستجداته، ويحوي تنوعا بالاهتمامات بين التربية والدعوة والعلم الشرعي.

وقد اكتسح التيار الصحوي الساحة الجماهيرية، وكانت له الغلبة والسيادة، وطرح اقطابه مرجعيات ورموزا يشكل خطابها الخارطة الفكرية للشباب المتدينين، الا ان تواري رموزه عن الساحة وبروز احداث الشيشان الجهادية افسح في المجال امام صعود الخطاب السلفي الجهادي، فشكل تغييرا في البنية الثقافية لجمهور عريض من المتدينين، ثم جاءت احداث سبتمبر، فكانت تتويجا لمرجعية التيار السلفي الجهادي على الساحة، بأفكاره القطعية التي لا تقبل الحوار أو الخلاف، هذا الواقع دفع اقطاب التيار الصحوي للعودة الى الساحة وذلك بجمع اكبر عدد من الشخصيات الاسلامية للتوقيع على بيان يشكل نقلة نوعية في التعامل مع المخالف في الخطاب الاسلامي الجماهيري، وذلك لاعادة التوازن للساحة الاسلامية وقطع الطريق على التطرف، وبعض الافكار التكفيرية، التي صاحبت صعود التيار الجهادي، وقد نجحوا في حشد عدد كبير من الأصوات، لكنهم لم يدركوا حجم التأييد الذي يحظى به التيار السلفي الجهادي في الساحة، فطرحوا البيان وهم غافلون عن حجم التغيير الذي شهدته الساحة، ولم يدر بخلدهم حجم الرفض الذي سيواجه البيان، وهذا ما حدث. فقد احدث البيان صدمة عنيفة في اوساط الاسلاميين، وواجه مقاومة شرسة، ووجده بعض المنتمين للتيار السلفي فرصة لاسقاط مرجعية اقطاب التيار الصحوي، وهذا ما يفسر الهجوم الشرس، الذي صدر في الرد على البيان، فقد اعتمدت استراتيجية الرد على عدة محاور منها، اثارة القضايا العقدية الكبرى كقضية الولاء والبراء، والجهاد، والتحاكم الى الطاغوت، والايحاء للجمهور بأن البيان قفز عليها وتجاوزها، ومن المحاور ايضا، الضرب على الوتر الحساس لدى الجمهور، وهو وتر الجهاد والعزة، واثارة العاطفة بتصوير اقطاب التيار الصحوي بأنهم تخلوا عن المجاهدين وخذلوهم وارتموا في احضان امريكا، ومن المحاور ايضا الهجوم الشخصي على اقطاب التيار الصحوي، وذلك بمقارنة مواقفهم السابقة بمواقفهم الحالية تجاه بعض القضايا، وهي طريقة ماكرة لاسقاط شخوصهم امام المتأثرين بهم.

هذا الهجوم الشرس، غير المتوقع، احدث تراجعا لدى عدد من الموقعين، وهذا بدوره شكل ضغطا على القائمين على البيان ثم زاد الضغط بتهديد اقطاب التيار السلفي الجهادي باخراج بيان مضاد، وانتهت جولة الصراع بإعلان القائمين على البيان التراجع، والانضواء تحت مرجعية التيار السلفي الجهادي، وهذه قراءة سريعة للحدث، وتظل اسئلة كثيرة مطروحة تبحث عن اجابات: ما مستقبل الانفتاح الثقافي للخطاب الاسلامي الجماهيري بعد هذه النكسة؟ وهل يعد تراجع القائمين على البيان نهاية لأي عمل جماعي ثقافي يمكن ان تجتمع عليه التيارات الوطنية؟ وهل يعني تراجع القائمين على البيان موت الثقة بين التيارات الفكرية المختلفة في مجتمعنا؟ وهل يعد تراجع القائمين على البيان عن بعض الرؤى الثقافية تراجعا تكتيكيا تفاديا للضغط الشعبي، ام هو تحول حقيقي في موقفهم الفكري؟ وهل يمكن ان يتم تحول فكري حقيقي فجأة في وقت قصير، دون الدخول في حوار، وجدال فكري؟

* كاتب واكاديمي سعودي