أوراق لورانس العرب

TT

لا يمضي عام إلا ونكتشف شيئاً جديداً أو شبيهاً بالجديد عن الرجل الذي ارتبط تاريخه الشخصي بتاريخنا السياسي وصار يحمل اسمنا ويعرف في العالم باسم «لورانس اوف ارابيا».

وأحدث هذه الاكتشافات مجموعة أوراق ومراسلات تم الإفراج عنها الاسبوع الماضي، وفيها نتعرف على وجه آخر للورانس المظلوم، فقد كنا نعرف عن شذوذه لكننا لم نكن ندري انه يدفع مرتباً ثابتاً لمجند اسكوتلندي ليقوم بضربه وتعذيبه حتى يحصل على بعض انواع المتعة الخاصة بصنف من المازوشيين الذين يستعذبون العذاب الجسدي.

ومحنة لورانس العرب التي تحولت إلى متعة، بدأت منذ عام 1917 حين أسره الاتراك في سورية، وعذبوه، واغتصبوه، فكتب عن ذلك لاحقا بصيغ عامة ومطاطة في مذكراته، وأعمدة حكمته، مدركاً ان الأمر لم يعد سراً انسانياً ولكنه ظل من الأسرار العسكرية في كل الأحوال، ففي رسالة كشفت قبل رسائل وأوراق الاسبوع الماضي يوصي المندوب السامي البريطاني، فرانسيس وينغيت، منذ عام 1924، بالتكتم على مسألة اغتصاب لورانس حتى لا يؤثر ذلك على معنويات الجنود العاملين في الجبهات الشرقية.

وهناك من يظن بأن الأحرف الاولى التي اهدى إليها لورانس كتاب «أعمدة الحكمة السبعة»، تشير إلى الفتى البدوي الذي رافق المؤلف في البادية السورية وعشقه لورانس، أما إن كان ذلك قبل الاغتصاب أو بعده، فمسألة صعبة التحديد لأن شذوذ لورانس من القضايا الشائكة ايضاً، فلا احد يعرف ان كان قد حمله معه منذ ايام الدراسة في اكسفورد ام انه استطاب الإذلال وتوابعه بعد حادثة اغتصاب الاتراك له في سورية، فتلك المسائل ما تزال تحير المؤرخين وعلماء النفس.

وتؤكد الأوراق والمراسلات الجديدة المفرج عنها وجهة نظر كولن ويلسن في دراسته لشخصية مواطنه لورانس منذ الستينات حين قرنه في كتاب «اللامنتمي» مع نجنسكي، وفان كوخ، وقرنه في سلك الشخصيات التي يفلت من يدها زمام السيطرة على حياتها الشخصية فتنتهي نهايات غير سعيدة بعد ان تصل الى مرحلة صعبة من مراحل الخواء الإنساني والإحساس باللاجدوى.

لقد كان لورانس على الدوام يحلم بطاحونة في الريف الانجليزي، ومطبعة تقليدية يطبع فيها كتب التاريخ ويغلفها بجلود الأبقار، وقد سارت حياته فعلاً عكس ما يشتهي، فحين ذهب إلى الشرق الأوسط الذي يفسد حياة من يعيش فيه، ومن يفد إليه، كان يود ان يجمع مادة أطروحته عن الحروب الصليبية ثم يتحول إلى اكاديمي مستقر يقتني «الطاحونة ـ الحلم» ويعيش حياة الهدوء والتأمل بجوار ابقاره وأغنامه.

والذي حصل لاحقاً كان بعيداً تماماً عن أي هدوء، فقد حارب، ومارس كل انواع العنف والقتل، واشتهر وتحولت شهرته إلى عبء حتى اضطر للتخفي تحت اسماء مستعارة كثيرة في القوات الملكية الجوية التي حفظت أرشيفه الشخصي بعد عودته مطعوناً من كل الجهات من المشرق العربي، فقد وعد العرب بالاستقلال وخانهم نظرياً، اما عملياً فقد كان في موقع من لا يجوز له ان يعد لانه لا يستطيع ان ينفذ وعوده.

وهناك من يعتقد ان خيانته غير المقصودة للعرب كانت سبباً اضافياً لآلامه، لانه كان مخدوعاً مثلهم، مقابل من يظن انه كان على دراية تامة بسياسات بلاده وحلفائها تجاه العالم العربي.

والأوراق الجديدة لا تشير إلا إلى خيبته وحدها فهو ينفي في حديث يعود إلى عام 1934، اي قبل عام على مصرعه في حادث دراجة، ان يكون مخبراً مطلعاً، وهذا زعم يصعب تصديقه لا سيما ان بداية تورطه في المنطقة بدأت من عمله في شعبة الخرائط التابعة للاستخبارات.

والمراسلات الجديدة تنفع علماء النفس اكثر مما تنفع المؤرخين، فمعظمها نفثات ألم وشكاوى نفسية من شخصية محبطة حكمت عليها أقدارها ان تسير عكس ما ترغب، ففقدت العذرية والامان، وفوقهما السلام الداخلي، وبوصلة الرؤية.