في الإحصاءات الرسمية

TT

كتبت هنا مرة انني حيث اسافر في البلدان العربية، احاول الاطلاع على احوالها واخبارها من صحفها. وسخر الاستاذ خالد القشطيني من الفكرة في زاويته. او بالاحرى سخر من احتمال ان يكون مسموحا للصحافة العربية ان تنبئ باحوال اهلها وان تلمح الى الحقائق بدل ان تفرش الورق فوقها. وهو طبعا على حق. لكن حتى في النظام السوفياتي كان في امكان الناس ان تستخلص بعض التغيرات او المتغيرات من خلال «البرافدا» و«الازفستيا»، سواء بما تنشره او بما تتجاهل نشره قصدا. وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية صدر كتاب في المانيا عن وضع القوات العسكرية، فحوكم صاحبه. وسئل عن مصدر معلوماته فقال انها الصحافة الرسمية التي كانت تنشر باستمرار مَنْ تقاعد من القادة ومَنْ رفع ومَنْ نقل الى الجهات المحتملة.

وشيء آخر اكتب عنه هنا باستمرار، وهو ان علينا ان ندفع بقضايانا الحقيقية الى العلن والنقاش والحساب. ذلك اننا شعب تخدره السياسة ويثيره فشل العمل السياسي ولا يرى شيئا آخر حوله. فلا الفقر قضية ولا التخلف موضوع ولا التقصير هم. فما ليس بالسياسة ليس بذي بال. ولذلك تخترق المجتمع العربي ظواهر مأساوية كثيرة لا تزال تعالج كحالات فردية. ومنها على سبيل المثال «جريمة الشرف» في الاردن او غيره.

وهذا الصباح اقرأ في صحيفة «الاتحاد» في ابو ظبي، شيئا مريعا نقلا عن تقرير حكومي رسمي في اليمن. وهذا دليل على انه يمكن ان نستقي من مصدر رسمي احيانا، اخبارا هائلة. يقول تقرير «لجنة الصلح ومعالجة قضايا الثأر» ان الثأر القبلي حصد في اليمن العام 2001 ارواح 2000 شخص. ويفيد التقرير ان اغلب قضايا القتل الثأري تسوى عبر العرف القبلي وان 20 في المائة فقط من تلك القضايا يصل الى المحاكم. وتقدر احصاءات رسمية ان 19 مليون يمني يملكون 60 مليون قطعة سلاح، في بلد تقام فيه اسواق السلاح علنا على مسافة قريبة من صنعاء.

في السنوات العشرين الاولى من صراع الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا الشمالية كان عدد القتلى تماما عدد قتلى اليمن العام الماضي، وقد يقول قائل (كالعادة) لكن هذا الرقم دون عدد ضحايا السير في فرنسا، او دون عدد تصفيات الجريمة المنظمة في اميركا. لكننا هنا نتحدث عن ظاهرة اجتماعية شبه مقبولة لا عن سيارات مسرعة او مجرمين متنافسين. ثم ان النسبة في بلد لا تبرر اطلاقا القتل في بلد آخر. وقد دعا الرئيس علي عبد الله صالح الى معالجة المسألة القبلية، غير ان العلاج قد يبدو مستحيلا ما دام السلاح مباحا او رمزا للمباهاة والافتخار. ولانه مباح في اميركا بلغت نسبة الجريمة ما بلغت في حين لا تزال بريطانيا ترفض ان تحمل شرطتها السلاح، خوفا من ان ينهار الوضع الامني الى اكثر مما هو عليه.

لا تقوم المجتمعات بقبول القواعد او الاعراف التي تشتتها. فالنسب فخر في كل مكان لكن القبلية نقيض الدولة. وفي بلاد القضاة السعيدة لا يجوز ان يبقى القضاء (او التسوية) في ايدي المتقاتلين انفسهم، فثمة شيء اسمه «الحق العام» مهما تم من تسوية بين المعنيين. وهذا «الحق العام»، او هذا القانون، هو الذي يحدد العقوبة. فالقتل قتل، سواء كان من أجل ملكية اراض او كان من اجل شرف شقيق. فالقانون هو المرجع الاخير، ولا يحق لاحد ان يسن قانونا لنفسه وان يحدد العقاب والادانة وينفذ الحكم بالموت.