خطوة لو أقدم عليها العراق لاستكمل «نجاحاته»

TT

خطوة لو اتخذها العراق، بعد أن يتخلى عن نهجه السياسي تجاهها دون أن يتخلى عن كبريائه، لحقق نجاحاً سياسياً لا يقل عن النجاح الذي حققه في قمة بيروت الأخيرة عندما تخلى عن تشدده في قمة عمان وأظهر مرونة تجاه دول الخليج والكويت على وجه التحديد واعطى ضمانات مكتوبة بعدم تكرار ما حصل في صبيحة يوم الثاني من أغسطس (آب) 1990 والاستعداد لبحث قضية الأسرى بصورة جدية.

هذه الخطوة هي إطلاق مبادرة فعلية على أساس مستجدات ربع القرن الأخير لحل المشكلة الكردية حلاً يعزز وحدة العراق التي هي الأهم، ويستجيب لرغبات وتطلعات الشعب الكردي الذي قاسى وعانى بما فيه الكفاية والذي اضطر في احيان كثيرة للتعاون مع جهات ودول كان يعرف تمام المعرفة ان دافعها لهذا التعاون ليس الشفقة ولا العطف على الأكراد ولكن إما الأطماع الاقليمية وإما المصالح الخاصة.

مهما حاولنا اغماض عيوننا تجاه الحقائق فإن المنطقة تعاني من مغص دائم لا يصل الى مستوى ألم القضية الفلسطينية ولكنه احد مؤرقات ليل هذا الجزء من العالم، وهو مغص المسألة الكردية في العراق وفي تركيا وفي إيران، فهذه المشكلة مع الوقت أصبحت جرحاً ملتهباً استنزف الكثير من الطاقات العراقية وألحق الكثير من الآلام والأوجاع بجزء من الشعب العراقي، هو الشعب الكردي في الشمال.

لم تنفع القوة في وأد التطلعات الكردية وبقيت حركة الشعب الكردي لنيل حقوقه التي يطالب بها وهي مطالب وفقا للتيار العام، الذي مثله الملا مصطفى البارزاني وتابعه ابناؤه واحفاده، لا تمس وحدة الوطن العراقي، وكان الرئيس صدام حسين قد استجاب لمعظمها في مطلع سبعينات القرن الماضي عندما وقع، وكان نائباً للرئيس العراقي، اتفاقية مارس (اذار) الشهيرة التي جرى الالتفاف عليها بعد التصالح مع شاه ايران السابق محمد رضا بهلوي في اعقاب اتفاقية الجزائر المعروفة.

الآن كل الانظار، التي تتابع الشأن العراقي واحتمال تنفيذ واشنطن تهديداتها المتلاحقة، تتجه نحو الشمال العراقي، وفي كل يوم نسمع خبراً جديداً وتتحدث وسائل الإعلام عن «سيناريوهات» جديدة وهناك شبه اتفاق لا يخالفه حتى كبار المسؤولين العراقيين بأن الجبهة الكردية ستكون الجبهة الاساسية اذا نفذ الاميركيون تهديدهم ووعيدهم وشنوا الحرب التي لم يعد ينقصها سوى عامل الوقت فقط.

لم يصدر عن أي مسؤول كردي لا في الحزب الديموقراطي بقيادة مسعود البارزاني ولا عن حزب الاتحاد الوطني بقيادة جلال الطالباني، ما يشير الى ان هناك رغبة كردية بأن تكون مناطق الشمال منطلقاً للهجوم المرتقب والمتوقع على العراق، بل لقد صدر اكثر من تأكيد على لسان البارزاني وعلى لسان الطالباني بأن منطقتهما لن تكون «حصان طروادة» لمثل هذا الهجوم المرتقب، وانهما يتمسكان بوحدة العراق ويرفضان أي تدخل خارجي في شؤونه الداخلية.

لكن الضرورات تبيح المحظورات، كما يقال، ولأن المعادلات الدولية والإقليمية تفرض نفسها في الكثير من الأحيان على دول مستقرة وذات امكانيات كبيرة، فإن صمود القيادات الكردية عند هذا الموقف، الذي يمكن الجزم بأنه حقيقي وصحيح وليس من قبيل المناورة او ذر الرماد في العيون، سيكون محدوداً اذا واجهت ضغطاً بحجم ضغط الولايات المتحدة عندما تحين لحظة الصفر، واذا لم تبادر الحكومة العراقية الآن.. الآن.. وليس غداً الى اعطاء هذه القيادات ما يعزز صمودها ويجعلها قادرة على تحصين مواقف وتوجهات شعبها.

تجمع القيادات الكردية، والمعني هنا قيادتا الحزب الديموقراطي وحزب الاتحاد الوطني، على انه من غير الجائز الاقدام على مغامرة غير محسوبة العواقب تكون نتيجتها تدمير كل ما بناه الأكراد على مدى اكثر من عشرة اعوام، ولذلك فإن هذه القيادات لا تزال ترفض تحويل مناطق شمال العراق الى ساحة معركة، وترفض ان يكون الشعب الكردي رأس حربة لحرب لا أحد يعرف حتى الآن الى ماذا ستؤدي بعد اسقاط النظام، هذا اذا تمكنت من تحقيق هذا الهدف غير المضمون التحقيق.

لا يريد الأكراد المشاركة في أية مغامرة، وكان مسعود البارزاني، الذي بقي على اتصال مع الرئيس صدام حسين منذ العام 1991 وحتى اليوم، قد حال دون أن تحول باقي قوى المعارضة العراقية، وبخاصة الائتلاف الذي يقوده احمد الجلبي، منطقة شمال العراق الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، الى جيب لاستنزاف النظام العراقي والقيام بعمليات عسكرية انطلاقا من هذه المناطق ضد أهداف عراقية في العمق وفي خطوط المواجهة.

لقد قيل الكثير عن الأكراد وعن مناطق شمال العراق، ويقيناً ان كل ما قيل، ومن ضمنه اتهام هذه المناطق بأنها غدت «وكراً» للتآمر على العراق، لا أساس له من الصحة وعلى الإطلاق، فالأكراد يتمسكون بعراقيتهم وبوحدة وطنهم العراقي، لكن لهم بعض الحقوق المحقة التي يطالبون بها والتي يرون، وفي هذا الكثير من الصحة، ان تحقيقها سيعزز وحدة العراق وسيجعله اكثر قوة واكثر مقاومة للأطماع الاقليمية وبخاصة الاطماع التي تهدده من الشرق ومن الشمال.

يعرف الأكراد وهم يدرسون هذا لاطفالهم في المدارس ولأبنائهم في الجامعات بأن مستقبل الأمة الكردية، ليس في العراق فقط وانما ايضاً في ايران وتركيا، ومستقبل الأمة العربية، واحد، وأن هناك تداخلاً في التاريخ كالتداخل في الجغرافيا، وأنه اذا كانت هناك مرارات تاريخية مع أمم اخرى فإن ما بين الكرد والعرب يجعل كلا منهما عمقاً للآخر وسنداً له في معركة التحرر وفي عملية البناء والتطور.

في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي اتفق الأكراد بكل احزابهم وقواهم ومن خلال برلمانهم «الاقليمي» الموحد، على ان تطورات ربع القرن الاخير ومستجدات ما حدث بعد الغزو العراقي للكويت، تقتضي الارتقاء باتفاقية اذار الآنفة التي يمكن تلخيصها بـ«الحكم الذاتي للشمال والوحدة للعراق» من صيغة الحكم الذاتي الى صيغة «الفيدرالية».

وبعد ذلك، اي في السنوات اللاحقة لبدايات عقد التسعينات من القرن الماضي، بقي الحوار مستمراً بين قيادة الأكراد، مسعود البارزاني على وجه التحديد، وبين الحكومة المركزية في بغداد، وكان رأي القيادة الكردية ان التوصل الى حل لهذه المشكلة وعلى اساس هذه الصيغة التي يقبل بها اكراد العراق كلهم، سيعزز موقف العراق في وجه التهديدات الخارجية وسيعزز موقف القيادة الكردية في وجه الضغوط التي تتعرض لها لحملها على تحويل مناطقها الى منصة للحرب المرتقبة ضد بغداد.

لم تتضمن هذه الصيغة، أي الصيغة «الفيدرالية»، أي اشارة لا بصورة مباشرة ولا غير مباشرة للانفصال واقامة دولة كردية في المناطق الشمالية، والأكراد يعرفون، حتى وان راودت بعضهم اغراءات الانفصال والدولة المستقلة، ان هذا غير ممكن في ظل الاوضاع الاقليمية السائدة، وانه لا الأتراك ولا الإيرانيون سيسكتون ازاء أي تطور بهذا المستوى وبهذه الخطورة.

ان القيادات الكردية تعرف هذا، وكان مسعود البارزاني وجلال الطالباني بعد التوصل الى اتفاق واشنطن الشهير بينهما، قد اجريا مباحثات شاقة مع الحكومة التركية بمشاركة مسؤولين اميركيين صدر في اعقابها بيان اكد على ان هذا الاتفاق لا يتضمن ما يعني التوجه لإنشاء دولة كردية في مناطق الأكراد في شمال العراق.

كل ما طالب به الأكراد في الصيغة «الفيدرالية» التي طرحها مسعود البارزاني على الرئيس العراقي صدام حسين هو أن يديروا شؤون اقليمهم بأنفسهم، وان تكون لهم حصة محددة في خيرات وطنهم، مع الاتفاق على ان تكون جميع الشؤون المتعلقة بالعلاقات الخارجية وبقضايا الاقتصاد والقوات المسلحة موحدة وتتبع للحكومة المركزية في بغداد.

بقي مسعود البارزاني يطرح ضرورة حسم هذا الأمر كلما جرى لقاء بين الطرفين من خلال كبار المساعدين والمسؤولين، لكن بغداد بقيت صامتة، وفهم الأكراد ان الرئيس العراقي يتجنب الاقدام على خطوة كهذه في مثل هذه الظروف حتى لا يسود اعتقاد بأنه قدم تنازلات خطيرة في لحظة ضعف. ويبدو ان المفاوضين والمحاورين الأكراد تلقوا وعوداً مريحة بهذا الخصوص لكن بعضاً منهم يقولون ان التجارب علمتهم ان لا يطمئنوا لهذه الوعود.

والآن وقد اتخذ العراق تلك الخطوة الهامة في قمة بيروت وبعد ان وافق على موضوع «النفط مقابل الغذاء» بعد طول تمنع وتردد، ثم بعد ابداء كل هذه المرونة تجاه مسألة عودة المفتشين، فإن مسألة الاستجابة لمطالب الأكراد بـ«الفيدرالية» ستكون ضربة استراتيجية موفقة في اطار الهجوم المعاكس الذي تقوم به بغداد لتنفيس الاندفاعة الأميركية واحباط مشروع الحرب التي يخطط لها جورج بوش، وهي حرب يسود الاعتقاد بأنها ستبدأ مع بداية العام المقبل.

إن الوقت ملائم جداً وستحسب خطوة الاستجابة الفورية والفعلية لرغبة الأكراد بـ«الفيدرالية» للرئيس العراقي صدام حسين، وبخاصة اذا جاءت الآن قبل ان يكتمل بناء الاستعدادات للحرب المرتقبة ضد العراق، وليس عليه، وهي خطوة اذا تمت بصدق واخلاص وبدون ألاعيب ولا مناورات فإنها ستكون كفيلة بترحيل الأزمة الكردية الى الدول المجاورة التي تعاني اساساً من هذه المشكلة.