معضلة أميركية

TT

دعونا نكن صريحين ونحن نحتشد حول مقر مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف.بي.آي) ونشحذ أسنة سهامنا، ونترقب ما تطالعنا به الأيام بشأن أخطائه، ثمة سحابة من النفاق تلوح في الأفق.

فواحد من الأسباب التي دعت إلى كبح جماح عملاء المكتب الأشداء، خلال محاولاتهم تعقب زكريا موساوي، هو أن أنصار الحرية مثلي ـ والوسيلة الإعلامية التي أعمل فيها ـ ظلوا ينتقدون سلطات الضبط القضائي والأمني لقيامها باختصار الطريق ولانتهاجها مسلكا قد يبدو عنصريا. وما دمنا نواصل الإشارة باصابعنا الى نقاط ما، يتوجب علينا التحديق في المرآة.

قد يكون عامل الزمن، في عمل المكتب، مما يصعب الدفاع عنه، غير انه لا يعكس فقط احتراف التأني، بل أجواء (ساهمنا نحن الذين نهتم بالحقوق المدنية في إيجادها) حرص المسؤولون خلالها على عدم اعتبارهم دعاة هجوم فاقدين اي احساس، مما يعني أن الوقت قد حان لكي يختبر المدافعون عن الحقوق المدنية أداءهم، بنفس الأسلوب الذي اعتادوا تطبيقه على الآخرين. فمجمل الأمر أنه تم إلقاء موساوي في السجن ـ بحمد الله ـ ليس لأنه كان هناك دليل على ارتكابه لجريمة، بل لأنه شاب عربي تصرف بشكل مثير للشبهات يطابق تصوراتنا نحن عن الإرهابيين. تقول احدى الروايات الأكثر انتشارا، منذ الحادي عشر من سبتمبر، إن موساوي أراد تلقي تدريبات في قيادة طائرة من نوع 747، وليس الإقلاع أو الهبوط بها. والرواية لا أساس لها من الصحة على الإطلاق، وعلى العكس من ذلك، تشير تصريحات إف.بي.آي المتكررة، إلى أن موساوي أراد تلقي تدريبات حول الإقلاع والهبوط تحديدا.

لقد أثار موساوي الشبهات لتصرفه بطريقة أكثر وداعة، حيث دفع مبلغ 8 الاف دولار أميركي نقدا، مقابل دروس الطيران، كما أنه أعرب عن «اهتمام غير عادي» بكيفية فتح منافذ الخروج من الطائرة خلال الطيران، وقد كان طيارا تعيسا، ومع ذلك أراد تعلم قيادة طائرة عملاقة من نوع 747.

كل هذا لم يكن ليلفت الانتباه لو أن لون بشرة موساوي كان أبيض، ولو كان يجيد اللغة الإنجليزية. لكن لحسن الطالع، أدرك خبير الطيران ـ الذي قد يكون عنصريا، لكنه بالتأكيد دقيق ـ أن موساوي بصدد القيام بعمل ما.

تكشف قضية موساوي بجلاء عن حالة من اللانزاهة لدى جميع الأطراف. فإدارة بوش تورطت بعمليات اعتقال واسعة للمسلمين، ضاربة بالقانون عرض الحائط، حيث أبقتهم خلف القضبان متجاهلة انتهاكها للحقوق الوطنية. وهذا هراء، لأن الإدارة الأميركية انغمست تماما في ذلك النمط من انتهاك الحقوق المدنية الهستيري خلال أوقات الحرب، والذي اعتاد التاريخ أن ينتقده بشدة. ويعاني أنصار الحقوق المدنية بدورهم من افتقارهم للأمانة بامتناعهم عن الاعتراف بأن هناك حالة مقايضة بين الأمن العام وحرية الأفراد. وقد يكون مقبولا الإصرار على بقاء أيدينا بعيدة عن الإرهابيين المحتملين، الى ان يتوفر دليل على اختراقهم للقانون، لكن ذلك يمكن أن يتم فقط لو أن المرء أدرك بصراحة أن الثمن قد يكون التعرض لارهاب خطير.

لقد اتخذ إف.بي.آي يوم الخميس الماضي خطوات جديدة لتوسيع سلطاته بما يسمح له بمهاجمة المساجد والمكتبات العامة وشبكة الإنترنت، على سبيل المثال، وهي خطوات مقبولة. وعلينا أن نخفف من حدة قضية ظلت محظورة، الا وهي النظر للآخرين بشكل عنصري، بالنظر إلى الدروس التي استفدناها من قضية موساوي، التي تشير إلى فعالية هذه المسألة أحيانا.

يحظر وزير النقل نورمان ماينتا مسألة التفتيش في المطارات استنادا لأسباب دينية أو عرقية، بعدما كانت الراهبات يتعرضن لتفتيش حقائبهن، وبعدما كانت بعض النساء يتعرضن للتفتيش المهين، لأن جهاز المراقبة تعرف على نوع من المعادن في ملابسهن الداخلية. لكن دعونا نكون واقعيين، فاحتمالات قيام شباب عرب بالتوجة بطائرة نحو مواقع قوة نووية تبدو أكثر مما قد تفعله نسوة من كبار السن، وهكذا لا بد من تفتيش هؤلاء الشباب بشكل أكثر صرامة، حتى لو تطلب أن يتم الامر دون مجاملة. فها هي شركة طيران العال، الإسرائيلية، تتميز بأكثر أنظمة الأمن فعالية في العالم، وكل ذلك لأنها تفكر بطريقة عنصرية.

لب الموضوع هو أن مخاطر الإرهاب آخذة في التعاظم. وكما يقول أستاذ جامعة هارفرد جوزيف ناي فإن عدد ضحايا الأحداث الإرهابية خلال السبعينات (كالهجوم الذي استهدف القرية الأولمبية) بلغ عشرات، وعدد ضحايا هجمات الثمانينات والتسعينات ارتفع بشدة كما في تفجيرات طائرتي الخطوط الهندية وبان أميركان، الرحلة 103، ليبلغ المئات، لكن الحادي عشر من سبتمبر رفع الرقم إلى الآلاف، وها هم الإرهابيون يحومون حول أسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تقتل مئات الالاف.

مع تطورات الخطر وتغيره، علينا، نحن الذين نهتم بالحقوق المدنية، أن نعيد التوازن بين الأمن والحرية. وهي مهمة شاقة وممقوتة، لكننا نحن أنصار الحرية، بحاجة إلى أن نتعلم من درس الحادي عشر من سبتمبر، بنفس القدر الذي يتعلم منه مكتب التحقيقات الفيدرالي.

*خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»