دور مصر الغائب يجب أن يعود

TT

قرأت في «نيويورك تايمز» اول من امس، ما قاله الرئيس المصري حسني مبارك من أن مصر حذرت الولايات المتحدة، قبل الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) الماضي، من وجود خطط لدى تنظيم «القاعدة» لشن هجمات ضد الولايات المتحدة، وأن لديه خطة جديدة لدولة فلسطينية. كل ذلك جيد، لكن لا شيء فيه يجعلني أشعر بالاطمئنان، وذلك لسبب واحد وهو اننا لا نحتاج مصر أن تكون شرطيا عندنا، بل نحتاجها كي تكون الجانب التقدمي فينا.

ما اعنيه هو أننا نحتاج مصر كي تلعب الدور الذي لعبته في السياسة العربية في بدايات القرن العشرين. انه الدور الذي اناطه التاريخ بها، والذي لا بديل لها عنه، وهو قيادة العالمين العربي والاسلامي نحو الحداثة، مع رسالة آيديولوجية، لها جذور عميقة في التقاليد العربية والإسلامية، لكنها تتميز بطابعها التقدمي، التعددي، والديمقراطي. هذا هو الشيء المهم الذي تستطيع مصر أن تقدمه لنا، وهذا بالضبط هو ما لم تقم به لعقود عديدة.

ولأكن صريحا أكثر. ان مصر تحتل موقع مركز ثقل العالم العربي، ولديها أكبر طبقة متوسطة، وافضل جمهور متعلم بأحسن الطاقات. ولذا يمكن القول ان مصر كان عليها أن تصبح تايوان البحر المتوسط، لكنها أصبحت، بدلا من ذلك، بلدا يعاني من الركود، إلى النقطة التي سمحت لعدة بلدان عربية صغيرة أخرى أن تتجاوزها.

لقد كان الأردن البلد العربي الاول الذي حقق اتفاقية مع الولايات المتحدة تضمن له التجارة الحرة معها. في الوقت نفسه، تقوم البحرين الآن بكل التجارب المبتكرة في ميدان الديمقراطية، اما قطر فهي البلد الريادي في مجال البث الإعلامي المجاني عبر الأقمار الصناعية. من جانب آخر، هناك تونس التي على الرغم من طابع نظامها قادت الطريق نحو اقتصاد ليبرالي، ونجحت في بناء أواصر وطيدة مع الاتحاد الاوروبي.

كل هذه الابتكارات كان من المفترض أن تنطلق من مصر، ولو حدث ذلك لكان لها تأثير تحديثي هائل على العالم العربي، خصوصا تلك البلدان التي تعاني من الركود. لكن ذلك لم يحدث. فمصر التي انجبت في القرن الماضي مثقفين كبارا مثل نجيب محفوظ، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، لم تستطع أن تنجب بدائل عنهم. ان المناخ الثقافي في مصر يعيش حالة من الجمود نتيجة لفرض سياسة الرقابة المشددة، ولوقت طويل، على الإعلام والحياة الثقافية.

في منتصف التسعينات بدا الرئيس حسني مبارك مدركا ان مصر تحتاج الى خصخصة اقتصادها واصلاحه، لمجاراة الزيادة الكبيرة في عدد المصريين، وهي الزيادة التي ستتضاعف خلال العشرين سنة المقبلة. لكن بعد تحقق القليل من الإصلاح الذي انتج القليل من الازدهار، تراجع عن القيام بالجزء الأهم في عمليات الإصلاح. ومنذ سنة 2000 والاقتصاد المصري يعاني من حالة فقر الدم، إذ يبدو انه عاجز عن جذب الاستثمار المحلي أو الاجنبي بشكل واسع. فدولة مثل كوستاريكا التي لا يزيد سكانها عن اربعة ملايين نسمة، تصدّر سلعا أكثر من مصر التي يبلغ عدد سكانها 68 مليون فردا، أو تايلاند التي يماثل عدد السكان فيها عدد سكان مصر لكنها تصدّر عشر مرات أكثر منها.

وإذا كانت مصر قد هُددت هي أيضا من تنظيم «القاعدة» فإنها في مواجهة ذلك التهديد اتبعت اسلوبا اعتمد على اعتقال قادة الاصوليين النشطاء أو ابعادهم عن البلد، وهو ما ادى الى فراغ آيديولوجي تمكّن مهووس بالعنف مثل أسامة بن لادن ان يملأه. ويبدو ان البلدان العربية، وبالخصوص مصر، لم تستطع أن تجسد على الصعيد العملي بديلا اسلاميا تقدميا وديمقراطيا قادرا على مواجهة طروحات بن لادن المتطرفة.

وها هي إدارة بوش تسعى إلى إنفاق النقود على اعلانات تلفزيونية بهدف ايصال رسالتنا باللغة العربية للعالم العربي. بصراحة، هناك رسالة أكثر تقدمية من هذه نستطيع أن نبثها بالعربية، تبدأ بإجراء المقارنة لما كان يمكن تحقيقه من تأثير عبر مصر على العالم العربي، لكنه لم يحدث.

ان الرئيس حسني مبارك ليس عدونا. بل انه حقا من أنصار الولايات المتحدة، ويشكل حصنا قويا أمام وقوع حرب عربية ـ إسرائيلية جديدة. لكن إن كان يريد مساعدتنا حقا، وان كنا نريد حقا قبول مساعدته، فعلينا أن نتجنب التحدث معه عن تنظيم «القاعدة» أو إسرائيل. علينا أن نتحدث معه حول مصر فقط.

اننا إذا كنا تعلمنا شيئا واحدا من أحداث 11 سبتمبر، فانه يتمثل في حقيقة ان الإرهاب ليس نتيجة للفاقة المالية، بل هو نتاج الفقر في الكرامة. إنهم اولئك الشبان العرب المنتمون الى الطبقة المتوسطة، والذين يشعرون بأنهم محصورون في بلدان لا تقدم لهم الا القليل من فرص العمل، والقليل من الفرص التي تمكنهم من تحقيق طاقاتهم الداخلية، أو صياغة مستقبلهم، وهم يلومون الولايات المتحدة على وضعهم هذا. علينا أن نكسر هذه الحلقة المفرغة، ولا أحد يستطيع أن يقوم بذلك بشكل أكثر فعالية من المصريين. هل يمتلك بوش الجرأة لقول ذلك، أو اننا سنستمر في الكذب على أنفسنا وعليهم؟

*خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»