للهجوم على مصر مواسم!

TT

كما لهجرة الطيور مواسم، فإن للهجوم على مصر في أمريكا أيضاً مواسم.

وترتبط مواسم الهجوم على مصر بمناسبات مختلفة، ولكن المناسبة الثابتة دائماً هي الفترة السابقة والمواكبة لزيارة الرئىس المصري الى الولايات المتحدة الأمريكية.

الحديث عن مواسم الهجوم على مصر ليس مرده مشكلة نفسية أو احساسا بالاضطهاد، والدليل على ذلك أن مصر ظلت دوماً هدفاً لهجمات اعلامية وسياسية منذ عبد الناصر الصديق المستهدف في البداية والذي تحول الى عدو، مروراً بالسادات الذي اعتبر صديقاً حميماً للولايات المتحدة وحتى الرئيس مبارك، الذي ظل محافظاً على علاقات استراتيجية حميمة مع أمريكا ولكن تتسم بالتوازن في الوقت ذاته.

وبمناسبة الزيارة التي بدأت اليوم للرئيس المصري محمد حسني مبارك فقد بدأ موسم جديد للهجوم على مصر، واهالة التراب عليها، والامتناع عن رؤية أي اضافة أو ايجابية والبحث والتنقيب عن كل ما يمكن أن يصب في خانة السلبيات، وذلك في محاولة لاحداث حالة من الضجيج الاعلامي والسياسي، أو ما أشبه بقنبلة الدخان التي تضيع بسببها ملامح الأشياء، بهدف وضع المصريين في موقف الدفاع وشغلهم عن الطموحات الأساسية للزيارة. ولكن أظن أن هذه المسألة تمرس عليها المصريون بسبب تكرارها بانتظام.

والحملة الدورية على مصر معروف من يحركها وما هي أدواتها وعناصرها، وليس أيضاً بدافع الاحساس بعقدة الاضطهاد التأكيد على أن من يقف وراء هذه الحملة هم اسرائيل وتوابعها في الاعلام والادارة والكونجرس. هم ذاتهم الذين يقودون في مناسبات مختلفة حملات مشابهة على دول عربية أخرى، آخرها الحملة على المملكة العربية السعودية. وأدوات الحملة انضم اليها مؤخراً الكاتب الأمريكي - والذي أصبح الكاتب العربي الأول (!!) - توماس فريدمان، والذي يجاور مقالي مقاله اليوم. وعناصر حملة الهجوم على مصر أيضاً هي عناصر ثابتة متكررة منذ زيارة السادات الأولى إلى أمريكا. وتقف على رأس قائمة هذه العناصر المسائل الخاصة بالحريات الداخلية، وحقوق الانسان، والديمقراطية، والاصلاح الاقتصادي، والاقباط، وأضاف فريدمان هذه المرة عنصراً جديداً هو الاضطهاد الذي لاقاه نشطاء الاسلاميين مما دفعهم ـ وفقاً لمنطقه ـ الى الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية المطاف.

كما أن كل نظرية تحمل في طياتها عناصر انهيارها، واعمالاً لهذه المقولة، فإن طرح فريدمان يحمل في طياته عناصر انهياره منذ البداية، فلا أظن أنه من المقبول مصرياً على كل المستويات أن يطرح الرئيس الأمريكي على الرئيس المصري مثل هذه التساؤلات أو الطلبات أو التعليمات التي طرحها فريدمان، وأظن أنه لو كان في الادارة الأمريكية من يتمتع بالحنكة السياسية ـ وينبغي أن يكون هناك أحدهم ـ فإنه سينصح الرئىس الأمريكي بعدم طرح هذه النقاط.

المشكلة الحقيقية التي تعاني منها أطراف عدة داخل الولايات المتحدة الأمريكية أن فهمهم لطبيعة المجتمعات في الشرق الأوسط هو فهم قاصر في كثير من الأحيان، بل وتغيب عنهم في مرات كثيرة معلومات أساسية تساهم في عدم قدرتهم على التعامل بشكل صحيح مع هذه المجتمعات، ولعل طرح فريدمان يقف دليلاً على هذه المسألة. والمعرفة في جزء منها اختياري، لذلك يرفض البعض أن يرى سوى ما يريد أن يراه.

تحدث فريدمان عن مصر التي اضطهدت الاسلاميين وساهمت بذلك في خلق الارهاب وتنظيم القاعدة، وليته يتذكر القنوات السرية والخاصة التي احتفظت بها السفارات الأمريكية في دول العالم وخاصة في الشرق الأوسط مع التنظيمات الاسلامية المعتدلة منها والمتشددة، وقصة خروج الشيخ عمر عبد الرحمن من مصر إلى أمريكا عبر السودان تقف دليلا على الاسلوب الذي تعاملت به أمريكا مع مثل هذه الجماعات، والسيناريوهات المختلفة التي أعدتها الهيئات الأمريكية المختلفة عن تغيير نظم الحكم في الدول العربية والاسلامية ـ والتي اطلع على بعضها بالتأكيد فريدمان ـ يمكن أن تؤكد هذا الفهم القاصر لطبيعة المجتمعات العربية، والحسابات الخاطئة التي يحملها فريدمان الآن لمصر وقصة تنظيم القاعدة والمجاهدين الأفغان مع أمريكا لا تحتاج إلا إلى الاشارة إليها.

تفضل فريدمان فوصف مصر بأنه بلد الحرمان، وهو وصف يبين الموقف النفسي لكاتب المقال تجاه مصر، كما مواقفه تجاه كل العرب. نرى نحن المصريين في مصر العديد من السلبيات، ولكننا نرى في الوقت ذاته المستقبل، تعثرت مصر اقتصادياً لأسباب بعضها داخلي، ولكن أيضاً بعضها سياسي ودولي، وأيضاً تآمري، تخطو مصر خطوات مهمة - ليست كافية بعد ـ في اتجاه تأصيل التجربة الديمقراطية، والحد الأدنى الذي يشار إليه هو هذا القدر غير المسبوق من حرية التعبير. قد تمر بمصر سحابات من الاختناق الفكري والأيديولوجي، ولكن مع كل سحابة يثبت الجسد المصري صحته وقوته وقدرته على تجاوز تلك السحابات، لمصر مشاكلها الداخلية سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكنها تظل شأناً مصرياً يملكه المصريون.

هناك بناء يتم لأساس سياسي وتشريعي واقتصادي يصلح للبناء عليه، وهناك نقاط مضيئة في المسيرة المصرية يمكن أن يراها المحلل الموضوعي، ولكن يبقى المثل المصري الشهير «حبيبك يبلع الزلط، وفريدمان يتمنى لك الغلط».