ساسة في المدرسة

TT

يقال إن العرب، اتفقوا على أن لا يتفقوا. ولكن مع ذلك، لا شك في أنهم قد اتفقوا على أن العالم العربي ليس على ما يرام، وهو أبسط ما يمكن أن يقال، وذلك على اعتبار، أن جلد الذات ممارسة قاسية شبيهة تماما، بضرب الأطفال، أو تعنيف النساء.

ولكن، إلى جانب جلد الذات، هناك حلول أخرى للتداوي، وأكثر من فكرة للمعالجة مما نحن نتخبط في أحشائه. وأصول العلاج الصحيحة، كما يعرفها الأطباء، الذين يحترمون ميدعتهم البيضاء، تتمثل في المطالبة بإجراء فحوصات وتحاليل تشمل الجسد برمته، وعلى ضوء ذلك يتم تشخيص الوجع للاهتداء إلى الدواء اللازم وإلى الصيدلية التي وحدها تبيع حاجتنا من الدواء المرغوب فيه.

والانطلاق من الفحوصات يرمز كسلوك طبي إلى منهجية علمية في مقاربة الغامض والمجهول، يتم من خلالها إقصاء الأفكار المسبقة وتجاوز الذاتية، التي قادتنا إلى التضخم والسمنة العقلية! ويحدث في حالات مرضية نفسية وبدنية كثيرة، أن يطرح علينا الطبيب أسئلة حول طفولتنا، بل أن علماء النفس لهم قدرة عجيبة في تنقية حياتك من كل المراحل، باستثناء فترتي الطفولة والمراهقة، حيث المهد الأول للعقد وللمركبات بمختلف أنواعها. ولا شك في أن العودة إلى الطفولة كأرضية لتشخيص ما يعاني منه إنسان اليوم، هي عودة صحية تؤكد ما لفترة البراءة من استعداد لاستبطان ما أنزل البشر من فيروسات.

هذه المنهجية في تشخيص الخلل اعتمدها مكتب اليونسكو الإقليمي ببيروت، من خلال تنظيمه مؤخرا مؤتمرا في العاصمة الأردنية حول واقع التربية الفنية في التعليم الابتدائي والثانوي في البلاد العربية، وحاول أن يتوقف عند سبل تعزيز هذه التربية التي تشمل الشعر والفنون اللغوية الأخرى والمسرح وفنون الأداء والفنون التشكيلية والبصرية والموسيقى.

باختصار هدف المؤتمر، الذي جمع عديد التربويين والمبدعين، هو التوصل إلى صياغة توصيات ترسل إلى الدول العربية، ومنها إلى المؤسسات التربوية، لتعديل البرامج المتعلقة بمواد التربية الفنية.

وتبدو التوصيات التي وقع صياغتها شبيه بعملية تدارك للكائن العربي، أي أنه قد تم تجاوز الكهلة والشيوخ، ونقل الرهانات من دائرة الكبار، إلى دائرة التلاميذ عله، إذا أحسنا تربيتهم فنيا يكون حظهم في حسن الحياة أفضل منا، وبالتالي يقومون بإعادة خلق قيم ورموز هويتنا المرتبكة في عمق ثوابتها، خاصة أن الاكتراث بالبعد الفني ومحاولة تعميقه وتطهيره من شوائبه الكثيرة، هو الحل الصحي الوحيد أمامنا لبلورة جيل متوازن نفسيا وثقافيا مما يمكنه من الحياة بين الأمم، بأقل العاهات، لا سيما أن الفن يضرب مباشرة في جوهر الحياة، ومن تربى على الفن والامتلاء الوجداني والعقلي لا خوف عليه، لأنه محصن ويتمتع بمناعة تقيه شر الاستسلام لطاعون الرداءة، وخطر إهدار البعد الإنساني لفائدة طلوع نجم الغرائز ذات العلاقة بطور التوحش والبدائية، الذي أطنب في وصفه ابن خلدون في مقدمته.

إنه لجميل جدا أن نلتفت إلى الطفل، ونحوله إلى فاعل مستقبلي، إلا أن هذه الالتفاتة لا يمكن أن تكون حقيقية وفعلية وذات قدرة على تسجيل الأهداف المقصودة، إلا إذا استقامت العلاقة بين الفاعل السياسي والفاعل التربوي في بلداننا العربية، ويقودنا هذا الشرط في حد ذاته إلى التساؤل أولا، حول مدى إمكانية الحديث عن فاعل تربوي في مؤسساتنا التربوية، أم أن دوره لا يتجاوز وظيفة «العون» التربوي، الذي أشار إليها السوسيولوجي بيار بورديو، أي هل أن التربوي في الفضاء العربي فاعل في العملية التربوية، يساهم باستقلالية في بلورة المناهج والبرامج ويتم الإنصات لصوت العلم والمعرفة فيه، أم أنه مجرد ناقل لاختيارات الفاعل السياسي المستحوذ على كافة أنواع الأفعال.

إن من الصدق الذي توخاه بعض الفاعلين التربويين، كثيرا ما يقودهم إلى الكشف عن المكائد السياسية في التعليم العربي، وهي مكائد تلح على اعتماد طريقة متخلقة في تعليم الفنون، من ذلك أنه من السهل الاثبات بالحجة وبالبرهان، كيف أن مادة اللغة العربية في بلداننا مقتطفة من النظام السياسي، بل هي أكثر المواد التي تمارس فيها الدمغجة السياسية من خلال تسريب إيديولوجية النظام. وعلاوة على الثقل الايديولوجي، فإن محاباة مبدعي السلطة تأتي في المقام الأول لدى المختصين في وضع البرامج، حيث يختارون الشعراء المقربين والرسامين الذين يرسمون الواقع المزدهر، والموسيقيين، الذين يتنافسون في تلحين أناشيد الأمجاد الوطنية وأعياد ميلاد القائمين على البلاد.

إن إثارة هذا الموضوع المسكوت عنه، وتوجيه إصبع الاتهام صمتا وبكل الأساليب غير المباشرة، إلى الفاعل السياسي، يعني في قراءة أولى، بأننا بدأنا نمسك بالأسباب التاريخية المعاصرة لما أصبحنا عليه من فراغ ثقافي وعلمي، إذ أن تطعيم المناهج التربوية والبرامج بجرعات هائلة من الإيديولوجيا، ومن تدمير الملكة النقدية قبل بروزها، يمثل مؤامرة باطنية يمارسها الفاعل السياسي في حق الأجيال القادمة، ومن خلال الأعوان التربويين.

إن مجرد اعتماد تعليم متخلف، والحرص عند بعض البلدان على إفراغ مادة التربية الإسلامية من محتواها، بحيث يغادر الطالب الجامعة، ولا ثقافة حول دينه يمتلكها، كل هذا يؤكد تهمة التآمر على الأجيال الصاعدة الذين يشربون، ما يؤهلهم للصمت بشكل لا نلمس فيه آثار الجريمة، وبعد ذلك تتحول أشرطة الأبناء في بعض البلدان لتصور هتاف الجماهير وتصفيقهم، وزغاريد الإناث الساذجات، ويلتهم الجميع الطعم ثم نلوذ إلى النوم بعد أن يكون شريط الأبناء قد أفقدنا كل شهية للسهر.

أما في السنوات الأخيرة، فإن الفاعل السياسي قد بدأ ينتهج دربا أكثر خطورة. فالمنهجية الأولى على علاتها، أنتجت فينا أشخاصا يشعرون بالمرارة ويعيشون الانتفاضة في داخلهم، بينما أعلن اليوم، إهمال المواد الفنية لصالح المواد العلمية. ويتضح ذلك من خلال الضوارب، ومن خلال حجم الساعات، وهو ما يعني أن الجيل القادم سيكون جيل رياضيات وفيزياء، ووداعا إلى العلوم الإنسانية، تلك التي سبقت النهضة العلمية في بلاد الغرب، وهيأت الأرضية والمناخ لبروز علماء الذرة وعلماء الفضاء، ذلك أن الحاكم في عقول الفرنسيين إلى اليوم هو فولتار، وليس عالم الرياضيات أو الكمبيوتر. أما نحن وكعادتنا في ممارسة التنمية، فإننا نختار طريقة الضفادع في التحرك، أي القفز من بركة إلى أخرى، ومن مستنقع إلى جغرافية أكثر استعدادا لتفريخ فشلنا المتكرر. وطبعا لنا أن نتصور الجيل القادم وهو يتهجى، وشواربه عريضة، اللغة العربية، أو وهو يناقش معك كما بدأ يحدث الآن، جدوى الأدب والشعر وفائدة إهدار البصر في كتب التاريخ. وإذا كانت عمليات التحديث في مختلف الدول العربية قد أنتجت كل هذه الرداءة، وهذه الديكاتورية العجوز، وهذا الفراغ الذي يجعلنا وكأننا أعواد مقطوعة من شجر الحضارة والهوية، فما بالنا بالجيل القادم على مهل كأنه في طائرة.

يبدو أننا بحق، في حاجة إلى مراجعة حقيقية لمواد التربية الفنية في بلداننا العربية، ومثل هذه الحاجة لا بد من أن يضطلع بتلبيتها كل من يبتهج قلبه لرؤية طفل، فيجنبه سموم البرامج التعليمية، تماما كما نحرص على تقديم أكلة سليمة له. وإذا كان الأكل المسموم نجابهه بغسل المعدة، فإن المعرفة المدمغجة تسلبنا تدفق ذاتنا بشكل طبيعي وخلاق وخارق. بل والمدهش أن السياسي بعد أن يصيغ رأسنا ويعودها على الانحناء، ينال الدكتوراه الفخرية وتبقى رؤوسنا، كعلبة تجاوزت مدة صلاحيتها.

* كاتبة وشاعرة تونسية [email protected]