كتاب المنافي والترجمة

TT

مرة طلب أحد الكتاب أن نجد له مترجماً ليترجم روايته الجديدة الى الانجليزية، وعبر عن استعداده لدفع أي مبلغ يطلبه المترجم. وهذا المثال ليس استثنائيا بالطبع. ويكاد يتحول الى حالة يمكن ان نسميها «الهوس بالترجمة». والهوس بأي شيء، هو حالة مرضية بحاجة الى علاج. والعلاج الادبي في هذه الحالة، هو الابداع. فالمبدع الحقيقي همه الوحيد هو عمله، وشغله الشاغل هو ان يجود في مهنته الشاقة، تجويداً يصل الى حد الهوس اللذيذ، الخلاق، الذي لا يتمنى المرء له علاجاً. وتأتي بعد ذلك الترجمة والمترجمون أو لا يأتون.

اذن، هل هذا السعي المحموم وراء الترجمة، تعويض عن الابداع الحقيقي؟ أم سعي بائس وراء الشهرة «العالمية» وجائزة نوبل! والمؤسف ان هذه الظاهرة تنتعش في المنافي الكثيرة التي يعيش فيها المثقفون العرب وخاصة العراقيين الذين باتوا يشكلون شعبا تقريبا في كل بلد.

فما ان تفتح ديوانا حتى تجد ان صاحبه قد ترجمه، حتى قبل ان يبدأ، الى كل لغات العالم الحية، وتتأسف على السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور الذين لم تترجم لهم سوى بعض قصائد. وتتذكر عشرات المبدعين العرب الحقيقيين (ونأسف لاضافة صفة الحقيقيين التي من المفروض ان تكون نافلة)، الذين لم يجدوا من يترجم لهم عملاً ما.

وبالطبع، من حق كل كاتب ان يفعل ما يشاء، لكن الضرر الحقيقي سيصيب الأدب العربي كله، اذا لم تعالج هذه الظاهرة ولا نعرف كيف.

كتبت مرة ناقدة أوروبية تقول بعد قراءتها ترجمة لأحد الدواوين للغتها الشعرية العربية: «اذا كان الشعر العربي الحديث بهذا الشكل، فلا خير فيه».

اننا نترجم لبعضنا بعضاً، بعدما عرفنا بعض اللغات بفضل المنافي السعيدة. وحين نترجم لبعضنا بعضاً، تختفي كل المعايير الادبية والجمالية، لتحل محلها المعايير الاخوانية والاجتماعية.. والمصلحية ايضا.. واننا، ايضاً، نروج لبعضنا بعضاً، وتصل الشائعة الى هذا المثقف الاوروبي أو ذاك فيتسلمها كحقيقة جاهزة، دون ان يكون ملماً كفاية بخارطة الادب العربي الحقيقي، ومبدعيه الحقيقيين.

كما ان المال موجود ايضاً، من ناحية أخرى، وهناك محتاجون دائماً، مثلما يحصل بالضبط مع قسم من طلبتنا الذين يدفعون سخياً ليعودوا غانمين بشهادات الماجستير أو الدكتوراه الى مجتمعات لا تبهرها سوى الالقاب.

ولا حاجة للمرء ان يقول انها، مرة أخرى، الظاهرة العربية بامتياز، وهذه المرة خارج الحدود، فما «ترجم» لكتاب المنافي، خلال السنوات العشر الأخيرة، ربما يفوق ما ترجم من الادب العربي خلال الخمسين سنة الاخيرة.

وبالتأكيد هذا ليس عائداً الى صحوة أوروبية متأخرة على ادبنا ولا الى نهضة مباغتة في نوعية هذا الادب نقلته مباشرة الى «العالمية»، وانما عائد الى كل الاعتبارات السابقة التي تحدثنا عنها، وهي، في نهاية المطاف، لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا توصل الى جائزة نوبل!